الأربعاء، 21 أبريل 2021

باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم:


 باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ فقل: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة: ما تقول؟ قال: «أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد».
تقدم القول في أن كان تشعر بكثرة الفعل أو المداومة عليه وقد تستعمل في مجرد وقوعه.
وهذا الحديث: يدل لمن قال باستحباب الذكر بين التكبير والقراءة فإنه دل على استحباب هذا الذكر والدال على المقيد دال على المطلق فينافي ذلك كراهية المالكية فيما بين التكبير والقراءة ولا يقتضي استحباب ذكر آخر معين.
وفيه دليل لمن قال باستحباب هذه السكتة بين التكبير والقراءة والمراد بالسكتة ههنا: السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول أو عن قراءة القرآن لا عن الذكر.
وقوله: «ما تقول؟» يعشر بأنه فهم أن هناك قولا فإن السؤال وقع بقوله: «ما تقول؟» ولم يقع بقوله: هل تقول؟ والسؤال بهل مقدم على السؤال بما هاهنا ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما ورد في استدلالهم على القراءة في السر باضطراب لحيته.
وقوله: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب» عبارة: إما عن محورها وترك المؤاخذة بها وإما عن المنع من وقوعها والعصمة منها وفيه مجازان:
أحدهما: استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة أو في العصمة منها والمباعدة في الزمان أو في المكان في الأصل.
والثاني: استعمال المباعدة في الإزالة الكلية فإن أصلها لا يقتضي الزوال وليس المراد هاهنا البقاء مع البعد ولا ما يطابقه من المجاز وإنما المراد الإزالة بالكلية.
وكذلك التشبيه بالمباعدة بين المشرق والمغرب المقصود منها ترك المؤاخذة أو العصمة.
وقوله: «اللهم نقني من خطاياي إلى قوله من الدنس» مجاز كما تقدم عن زوال الذنوب وأثرها ولما كان ذلك أظهر في الثوب الأبيض من غيره من الألوان وقع التشبيه به.
وقوله: «اللهم اغسلني» إلى آخره يحتمل أمرين بعد كونه مجازا عما ذكرناه.
أحدهما: أن يراد بذلك التعبير عن غاية المحو أعني بالمجموع فإن الثوب الذي تتكرر عليه التنقية بثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء.
الوجه الثاني: أن يكون كل واحد من هذه الأشياء مجازا عن صفة يقع بها التكفير والمحو ولعل ذلك كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286] فكل واحدة من هذه الصفات- أعني: العفو والمغفرة والرحمة- لها اثر في محو الذنب فعلى هذا الوجه: ينظر إلى الأفراد ويجعل كل فرد من أفراد الحقيقة دالا على معنى فرد مجازي وفي الوجه الأول: لا ينظر إلى أفراد الألفاظ بل تجعل جملة اللفظ دالة على غاية المحو للذنب.
2- عن عائشة رضي الله عنها قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك. وكان إذا رفع رأسه من الركوع: لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة: لم يسجد حتى يستوي قاعدا وكان يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم).[كلام المستملي].
هذا الحديث سها المصنف في إيراده في هذا الكتاب فإنه مما انفرد به مسلم عن البخاري فرواه من حديث الحسين المعلم عن بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها وشرط الكتاب: تخريج الشيخين للحديث اهـ.
قولها: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير) قد تقدم الكلام على لفظة كان فإنها قد تستعمل في مجرد وقوع الفعل وهذا الحديث- مع حديث أبي هريرة- قد يدل على ذلك فإنها قد استعملت في أحدهما على غير ما استعملت في الآخر فإن حديث أبي هريرة: إن اقتضى المداومة أو الأكثرية على السكوت وذلك الذكر وهذا الحديث يقتضي المداومة- أو الأكثرية- لافتتاح الصلاة بعد التكبير بالحمد لله رب العالمين تعارضا.
وهذا البحث مبنى على أن يكون لفظ القراءة مجرورا فإن كانت لفظة كان لا تدل على الكثيرة فلا تعارض إذا قد يكثران جميعا وهذه الأفعال التي تذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قد استدل الفقهاء بكثير منها على الوجوب لا لأن الفعل يدل على الوجوب بل لأنهم يرون أن قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} خطاب مجمل مبين للفعل والفعل المبين للمجمل المأمور به: يدخل تحت الأمر فيدل مجموع ذلك على الوجوب وإذا سلكت هذه الطريقة وجدت أفعالا غير واجبة فلابد أن يحال ذلك على دليل آخر دل على عدم الوجوب.
وفي هذا الاستدلال بحث وهو أن يقال: الخطاب المجمل يتبين بأول الأفعال وقوعا فإذا تبين بذلك الفعل لم يكن ما وقع بعده بيانا لوقوع البيان بالأول فيبقى فعلا مجردا لا يدل على الوجوب اللهم إلا أن يدل دليل على وقوع ذلك الفعل المستدل به بيانا فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجود ذلك الدليل بل قد يقوم الدليل على خلافه كرواية من رأى فعلا للنبي صلى الله عليه وسلم وسبقت له صلى الله عليه وسلم مدة يقيم الصلاة فيها وكان هذا الراوي الرائي من أصاغر الصحابة الذين حصل تمييزهم ورؤيتهم بعد إقامة الصلاة مدة فهذا مقطوع بتأخره وكذلك من أسلم بعد مدة إذا أخبر برؤيته للفعل وهذا ظاهر في التأخير وهذا تحقيق بالغ.
وقد يجاب عنه بأمر جدلي لا يقوم مقامه وهو أن يقال: دل الحديث المعين على وقوع هذا الفعل والأصل عدم غيره وقوعا بدلالة الأصل فينبغي أن يكون وقوعه بيانا وهذا قد يقوي إذا وجدنا فعلا ليس فيه شيء مما قام الدليل على عدم وجوبه فأما إذا وجد فيه شيء من ذلك فإذا جعلناه مبينا بدلالة الأصل على عدم غيره ودل الدليل على عدم وجوبه: لزم النسخ لذلك الوجوب الذي ثبت أولا فيه: ولا شك أن مخالفة الأصل أقرب من التزام النسخ.
وقولها: (وكان يفتتح الصلاة بالتكبير) يدل على أموين:
أحدها: أن الصلاة تفتتح بالتحريم أعني ما هو أعم من التكبير بمعنى أنه لا يكتفي بالنية في الدخول فيها فإن التكبير تحريم مخصوص والدال على وجود الأخص دال على وجود الأعم وأعني بالأعم ههنا: هو المطلق ونقل بعض المتقدمين خلافه وربما تأوله بعضهم على مالك والمعروف خلافه عنه وعن غيره.
الثاني: أن التحريم يكون بالتكبير خصوصا وأبو حنيفة يخالف فيه ويكتفي بمجرد التعظيم كقوله الله أجل أو أعظم والاستدلال على الوجوب بهذا الفعل إما على الطريقة السابقة من كونه بيانا للمجمل وفيه ما تقدم وإما بأن يضم إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وقد فعلوا ذلك في مواضع كثيرة واستدلوا على الوجوب بالفعل مع هذا القول أعني قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وهذا إذا أخذ مفردا عن ذكر سببه وسياقه: أشعر بأنه خطاب للأمة بأن يصلوا كما صلى صلى الله عليه وسلم فيقوي الاستدلال بهذه الطريقة على كل فعل ثبت أنه فعله في الصلاة وإنما هذا الكلام قطعة من حديث مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم- ونحن شببة متقاربون- فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فظن أنا قد اشتقنا أهلنا فسألنا عمن تركنا من أهلنا؟ فأخبرناه فقال: «ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم فإذا حضرت الصلاة فيؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم» زاد البخاري: «وصلوا كما رأيتموني أصلي» فهذا خطاب لمالك وأصحابه بأن يوقعوا الصلاة على ذلك الوجه الذي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليه ويشاركهم في هذا الخطاب كل الأمة في أن يوقعوا الصلاة على ذلك الوجه فما ثبت استمرار فعل النبي صلى الله عليه وسلم عليه دائما: دخل تحت الأمر وكان واجبا وبعض مقطوع به أي مقطوع باستمرار فعله له وما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها- لا يجزم بتناول الأمر له وهذا أيضا يقال فيه من الجدل ما أشرنا إليه.
وقولها: (والقراءة بالحمد لله رب العالمين) تمسك به مالك وأصحابه في ترك الذكر بين التكبير والقراءة فإنه لو تخلل ذكر بينهما لم يكن الاستفتاح بالقراءة بالحمد لله رب العالمين وهذا على أن تكون القراءة مجرورة لا منصوبة واستدل به أصحاب مالك أيضا على ترك التسمية في ابتداء الفاتحة وتأوله غيرهم على أن المراد: يفتتح بسورة الفاتحة قبل غيرها من السور وليس بقوي لأنه عن أجرى مجرى الحكاية فذلك يقتضي البداءة بهذا اللفظ بعينه فلا يكون قبله غيره لأن ذلك الغير يكون هو المفتتح به وإن جعل اسما فسورة الفاتحة لا تسمى بهذا المجموع أعني: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بل تسمى بسورة الحمد فلو كان لفظ الرواية كان يفتتح بالحمد لقوي هذا المعنى فإنه يدل حينئذ على الافتتاح بالسورة التي البسملة بعضها عند هذا المتأول لهذا الحديث.
وقولها: (وكان إذا ركع لم يشخص رأسه) أي لم يرفعه ومادة اللفظ تدل على الارتفاع ومنه: أشخص بصره إذا رفعه نحو جهة العلو ومنه الشخص لارتفاعه للأبصار ومنه: شخص المسافر: إذا خرج من منزله إلى غيره ومنه ما جاء في بعض الآثار فشخص بي أي أتاني ما يقلقني كأنه رفع من الأرض لقلقه.
وقولها: (ولم يصوبه) أي لم ينكسه ومن الصيب: المطر صاب يصوب إذا نزل قال الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملأك ** تنزل من جو السماء يصوب

ومن أطلب الصيب على الغيم فهو من باب المجاز لأنه سبب الصيب الذي هو المطر.
وقولها: (ولكن بين ذلك) إشارة إلى المسنون في الركوع وهو الاعتدال واستواء الظهر والعنق.
وقولها: (وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما) دليل على الرفع من الركوع والاعتدال فيه والفقهاء اختلفوا في وجوب ذلك على ثلاثة أقوال الثالث: يجب ما هو إلى الاعتدال أقرب وهذا عندنا من الأفعال التي ثبت استمرار النبي صلى الله عليه وسلم عليها أعني الرفع من الركوع.
وأما قولها: (وكان إذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي قاعدا) يدل على الرفع من السجود وعلى الاستواء في الجلوس بين السجدتين فأما الرفع: فلابد منه لأنه لا يتصور تعدد السجود إلا به بخلاف الرفع من الركوع فإن الركوع غير متعدد وسها بعض الفضلاء المتأخرين فذكر ما ظاهره الخلاف في الرفع من الركوع والاعتدال فيه فلما ذكر السجود قال: الرفع من السجود والاعتدال فيه والطمأنينة كالركوع فاقتضى ظاهر كلامه: أن.
الخلاف في الرفع من الركوع جار في الرفع من السجود وهذا سهو عظيم لأنه لا يتصور خلاف في الرفع من السجود إذ السجود متعدد شرعا ولا يتصور تعدده إلا بالرفع الفاصل بين السجدتين.
وقولها: (وكان يقول في كل ركعتين التحية) أطلقت لفظ التحية على التشهد كله من باب إطلاق اسم الجزء على الكل وهذا الموضع مما فارق فيه الاسم المسمى فإن التحية الملك أو البقاء أو غيرهما على ما سيأتي وذلك لا يتصور قوله وإنما يقال اسمه الدال عليه وهذا بخلاف قولنا: أكلت الخبز وشربت الماء فإن هناك أريد به المسمى وأما لفظة الاسم: فقد قيل فيها: إن الاسم هو المسمى وفيه نظر دقيق.
وقولها: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى) يستدل به أصحاب أبي حنيفة على اختيار هذه الهيئة للجلوس للرجل.
ومالك اختار التورك وهو أن يفضي بوركه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى.
والشافعي فرق بين التشهد الأول والتشهد الأخير ففي الأول اختار الافتراش على التورك وفي الثاني اختار التورك وقد ورد أيضا هيئة التورك فجمع الشافعي بين الحديثين فحمل الافتراش على الأول وحمل التورك على الثاني وقد ورد ذلك مفصلا في بعض الأحاديث ورجح من جهة المعنى بأمرين ليسا بالقويين.
أحدهما: أن المخالفة في الهيئة قد تكون سببا للتذكر عند الشك في كونه في التشهد الأول أو في التشهد الأخير.
والثاني: والثاني أن الافتراش هيئة استيفاز فناسب أن تكون في التشهد الأول لأن المصلي مستوفز للقيام والتورك هيئة اطمئنان فناسب الأخير والاعتماد على النقل أولى.
وقولها وكان ينهى عن عقبة الشيطان ويروى عن عقب الشيطان ز وفسر بأن يفرش قدميه ويجلس بإليته على عقبيه وقد سمي ذلك أيضا الإقعاء.
وقولها وينهى أن يفترش إلى قولها السبع وهو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود والسنة: أن يرفعهما ويكون الموضوع على الأرض كفيه فقط.
وقولها وكان يتم الصلاة بالتسليم أكثر الفقهاء على تعيين التسليم للخروج من الصلاة للفعل المواظب عليه ولا يدل الحديث على أكثر من مسمى السلام وقد يؤخذ من هذا أن التسليم من الصلاة لقولها: وكان يختم الصلاة بالتسليم وليس بالتشديد الظهور في ذلك وأبو حنيفة يخالف فيه.
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» وكان لا يفعل ذلك في السجود.
اختلف الفقهاء في رفع اليدين في الصلاة على مذاهب متعددة.
فالشافعي قال بالرفع في هذه الأماكن الثلاثة أعني في افتتاح الصلاة والركوع والرفع من الركوع وحجته هذا الحديث وهو من أقوى الأحاديث سندا.
وأبو حنيفة لا يرى الرفع في غير الافتتاح.
وهو المشهور عند أصحاب مالك والمعمول به عند المتأخرين منهم واقتصر الشافعي على الرفع في هذه الأماكن الثلاثة لهذا الحديث وقد ثبت الرفع عند القيام من الركعتين وقياس نظره: أن يسن الرفع في ذلك المكان أيضا لأنه لما قال بإثبات الرفع في الركوع والرفع منه لكونه زائدا على من روى الرفع عند التكبير فقط وجب أيضا أن يثبت الرفع عند القيام من الركعتين فإنه زائد على من أثبت الرفع في هذه الأماكن الثلاث فقط والحجة واحدة في الموضعين.
وأول راض سيرة من يسيرها

والصواب والله أعلم استحباب الرفع عند القيام من الركعتين لثبوت الحديث فيه.
وأما كونه مذهبا للشافعي لأنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي أو ما هذا معناه ففي ذلك نظر ولما ظهر بعض لبعض الفضلاء المتأخرين من المالكية قوة الرفع في الأماكن الثلاثة على حديث ابن عمر: اعتذر عن تركه في بلاده فقال: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه فيهما أي في الركوع والرفع منه ثبوتا لا مرد له صحة فلا وجه للعدول عنه إلا أن في بلادنا هذه يستحب للعالم تركه لأنه إن فعله نسب إلى البدعة وتأذى في عرضه وربما تعددت الأذية إلى بدنه فوقاية العرض والبدن بترك سنة واجب في الدين.
وقوله حذو منكبيه هو اختيار الشافعي في منتهى الرفع وأبو حنيفة اختار الرفع إلى حذو الأذنين وفيه حديث آخر يدل عليه ورجح مذهب الشافعي بقوة السند لحديث ابن عمر وبكثرة الرواة لهذا المعنى فروي عن الشافعي أنه قال: وروى هذا الخبر بضعة عشر نفسا من الصحابة وربما سلك طريق الجمع فحمل خبر ابن عمر على أن يرفع يديه حتى حاذى كفاه منكبيه والخبر الآخر على أنه رفع يديه حتى حاذت أطراف أصابعه أذنيه وقيل: إنه رويت رواية من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ويحاذي بإبهاميه أذنيه).
واختلف أصحاب الشافعي متى يبتدأ التكبير؟ فمنهم من قال: يبتدأ التكبير مع ابتداء رفع اليدين ويتم التكبير مع انتهاء إرسال اليدين ونسب هذا إلى رواية وائل بن حجر وقد نقل في رواية وائل بن حجر: استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وكبر فرفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه وهذه الرواية لا تدل على ما نسب إلى رواية وائل بن حجر وفي رواية لأبي داود فيها بعض مجهولين لفظها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير) وهذا أقرب في الدلالة وفي رواية أخرى لأبي داود فيها انقطاع أنه: (أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه وحاذى بإبهامه أذنيه ثم كبر) وفي رواية أخرى أجود من هاتين «وكان إذا كبر رفع يديه» وهذه محتملة لأنا إذا قلنا فلان فعل احتمل أن يراد شرع بالفعل ويحتمل أن يراد فرغ منه ويحتمل أن يراد جملة الفعل ومن أصحاب الشافعي من قال: يرفع اليدين غير مكبر ثم يكبر ثم يرسل اليدين بعد ذلك وهذا إلى رواية ابن عمر.
وهذه الرواية التي ذكرها المصنف ظاهرها عندي مخالف لما نسب إلى رواية ابن عمر فإنه جعل افتتاح الصلاة ظرفا لرفع اليدين فإما أن يحتمل الافتتاح على أول جزء من التكبير فينبغي أن يكون رفع اليدين معه وصاحب هذا القول يقول: يرفع اليدين غير مكبر وإما أن يحمل الافتتاح على التكبير كله فأيضا لا يقتضي أن يرفع اليدين غير مكبر.
وقوله:وقال: «سمع الله لمن حمده» ربنا لك الحمد يقتضي جمع الإمام بين الأمرين فإن الظاهر أن ابن عمر إنما حكى وروى عن حالة الإمامة فإنها الحالة الغالبة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها نادر جدا وإن حمل اللفظ على العموم دخل فيه المنفرد والإمام وقد فسر قوله سمع الله لمن حمده أي استجاب الله دعاء من حمده وقد تقدم الكلام في إثبات الواو وحذفها وقوله وكان لا يفعل ذلك في السجود يعني الرفع وكأنه يريد بذلك عند ابتداء السجود أو عند الرفع منه وحمله على الابتداء أقرب وأكثر الفقهاء على القول بهذا الحديث وأنه لا يسن رفع اليدين عند السجود وخالف بعضهم في ذلك وقال: يرفع لحديث ورد فيه وهذا مقتضى ما ذكرناه في القاعدة وهو القول بإثبات الزيادة وتقديمها على من نفاها أو سكت عنها والذين تركوا الرفع في السجود سلكوا مسلك الترجيح لرواية ابن عمر في ترك الرفع في السجود والترجيح إنما يكون عند التعارض ولا تعارض بين رواية من أثبت الزيادة وبين من نفاها أو سكت عنها إلا أن يكون النفي والإثبات منحصرين في جهة واحدة فإن ادعي ذلك في حديث ابن عمر والحديث الآخر وثبت اتحاد الوقتين: فذاك.
4- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين».
الكلام عليه من وجوه:
الأول: أنه سمى كل واحد من هذه الأعضاء عظما باعتبار الجملة وإن اشتمل كل واحد منها على عظام ويحتمل أن يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها.
الثاني: ظاهر الحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء لأن الأمر للوجوب والواجب عند الشافعي منها الجبهة لم يتردد قوله فيه واختلف قوله في اليدين والركبتين والقدمين وهذا الحديث يدل للوجوب وقد رجح بعض أصحابه عدم الوجوب ولم أرهم عارضوا هذا بدليل قوي أقوى من دلالته فإنه استدل لعدم الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة ثم يسجد فيمكن جبهته وهذا غايته أن تكون دلالته دلالة مفهوم وهو مفهوم لقب أو غاية والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدم عليه وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم كما مر لنا في قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» مع قوله «جعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا» فإنه ثمة يعمل بذلك العموم من وجه إذا قدمنا دلالة المفهوم وهاهنا إذا قدمنا دلالة المفهوم: أسقطنا الدليل الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء أعني اليدين والركبتين والقدمين مع تناول اللفظ لها بخصوصها.
وأضعف من هذا: ما استدل به على عدم الوجوب من قوله صلى الله عليه وسلم: «سجد وجهي للذي خلقه» قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه.
وأضعف من هذا: الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة فإن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى فلا تترك.
وأضعف من هذا: المعارضة بقياس شبهي ليس بقوي مثل أن يقال: أعضاء لا يجب كشفها فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء سوى الجبهة.
وقد رجح المحاملي من أصحاب الشافعي القول بالوجوب وهو أحسن عندنا من وقل من رجح عدم الوجوب.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه سجد على الأنف وحده كفاه وهو قول مذهب مالك وأصحابه.
وذهب بعض العلماء إلى أن الواجب السجود على الجبهة والأنف معا وهو قول في مذهب مالك أيضا ويحتج لهذا المذهب بحديث ابن عباس هذا فإن في بعض طرقه «الجبهة والأنف معا» وفي هذه الطريق التي ذكرها المصنف «الجبهة» وأشار بيده إلى أنفه فقيل: معنى ذلك: انهما جعلا كالعضو الواحد ويكون الأنف كالتبع للجبهة واستدل على هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كعضو منفرد عن الجبهة حكما لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها ثمانية لا سبعة فلا يطابق العدد المذكور في أول الحديث.
الثاني: أنه قد اختلفت العبارة مع الإشارة إلى الأنف فإذا جعلا كعضو واحد أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر فتطابق الإشارة العبارة وربما استنتج من هذا: أنه إذا سجد على الأنف وحده أجزاه لأنهما إذا جعلا كعضو واحد كان السجود على الأنف كالسجود على بعض الجبهة فيجزئ.
والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة والأنف لكونهما داخلين تحت الأمر وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور لذلك في التسمية والعبارة لا في الحكم الذي دل عليه الأمر.
وأيضا فإن الإشارة قد لا تعين المشار إليه فإنها إنما تتعلق بالجبهة فإذا تقارب ما في الجهة أمكن أن لا يتعين المشار إليه يقينا وأما اللفظ: فإنه معين لما وضع له فتقديمه أولى.
الثالث: المراد باليدين- هاهنا- الكفان وقد اعتقد قوم أن مطلق لفظ اليدين يحمل عليهما كما في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] واستنتجوا من ذلك: أن التيمم إلى الكوعين وعلى كل تقدير: فسواء صح هذا أم لا فالمراد ههنا: الكفان لأنا لو حملناه على بقية الذراع: لدخل المنهي عنه من افتراش الكلب أو السبع ثم تصرف الفقهاء بعد ذلك فقال بعض مصنفي الشافعية: إن المراد الراحة أو الأصابع ولا يشترط الجمع بينهما بل يكفي أحدهما ولو سجد على ظهر الكف لم يجزه هذا معنى ما قال.
الرابع: قد يستدل بهذا على أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء فإن مسمى السجود يحصل بالوضع فمن وضعها فقد أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العدة وهذا يلتفت إلى بحث أصولي وهو أن الإجزاء في مثل هذا هل هو راجح إلى اللفظ أم أن الأصل عدم وجوب الزائد على الملفوظ به مضموما إلى فعل المأمور به؟.
وحاصله: أن فعل المأمور به: هل هو علة الإجزاء أو جزء علة الإجزاء؟ ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب وكذلك القدمان.
أما الأول: فلما يحذر فيه من كشف العورة.
وأما الثاني- وهو عدم كشف القدمين- فعليه دليل لطيف جدا لأن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفين وانتقضت الطهارة وبطلت الصلاة وهذا باطل ومن نازع في انتقاض الطهارة بنزع الخف فيدل عليه بحديث صفوان الذي فيه «أمرنا أن لا ننزع خفافنا»- إلى آخره.
فتقول: لو وجب كشف القدمين لناقضه إباحة عدم النزع في هذه المدة التي دل عليها لفظ أمرنا المحمولة على الإباحة وأما اليدان: فللشافعي تردد في وجوب كشفهما.
==============
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول: «سمع الله لمن حمده» حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: «ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أنه يدل على إتمام التكبير بأن يوقع في كل خفض ورفع مع التسميع في الرفع من الركوع وقد اتفق الفقهاء على هذا بعد أن كان وقع فيه خلاف لبعض المتقدمين وفيه رواه النسائي: «أنه كان يتم التكبير».
الثاني: قوله: «يكبر حين يقوم» يقتضي إيقاع التكبير في حال القيام ولا شك أن القيام واجب في الفرائض للتكبير وقراءة الفاتحة- عند من يوجبها- مع القدرة فكل انحناء يمنع اسم القيام عند التكبير: يبطل التحريم ويقتضي عدم انعقاد الصلاة فرضا.
وقوله: «ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة» يدل على جمع الإمام بين التسميع والتحميد لما ذكرنا: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الموصوفة محمولة على حال الإمامة للغلبة ويدل على أن التسميع يكون حين الرفع والتحميد بعد الاعتدال.
وقد ذكرنا أن الفعل قد يطلق على ابتدائه وعلى انتهائه وعلى جملته حال مباشرته ولا بأس بأن يحمل قوله: «يقول حين يرفع صلبه» على حركته حالة المباشرة ليكون الفعل مستصحبا في جميعه للذكر.
الثالث: قوله يكبر حين يقوم- إلى آخره اختلفوا في وقت هذا التكبير فاختار بعضهم أن يكون عند الشروع في النهوض وهو مذهب الشافعي واختار بعضهم أن يكون عند الاستواء قائما وهو مذهب مالك فإن حمل قوله حين يرفع على ابتداء الرفع وجعل ظاهرا فيه: دل ذلك لمذهب الشافعي ويرجح من جهة المعنى بشغل زمن الفعل بالذكر والله أعلم.
6- عن مطرف بن عبد الله قال: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين وقال: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم- أو قال: صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم.
مطرف بن عبد الله بن الشخير- مكسور الشين المعجمة مشدد الخاء المكسورة وآخره راء- أبو عبد الله العامري يقال: إنه من بني الحريش- بفتح الحاء المهملة وكسر الراء المهملة وآخره شين معجمة- والحريش من بني عامر بن صعصعة مات سنة خمس وتسعين متفق على إخراج حديثه في الصحيحين.
والحديث يدل على التكبير في الحالات المذكورة فيه وإتمام التكبير في حالات الانتقالات وهو الذي استمر عليه عمل الناس وأئمة فقهاء الأمصار وقد كان فيه من بعض السلف خلاف على ما قدمنا فمنهم من اقتصر على تكبيرة الإحرام ومنهم من زاد عليها من غير إتمام والذي اتفق الناس عليه بعد ذلك: ما ذكرناه.
وأما حكم تكبيرات الانتقال وهل هي واجبة أم لا؟ فذلك مبني على أن الفعل للوجوب أم لا؟ وإذا قلنا: إنه ليس للوجوب رجع إلى ما تقدم البحث فيه من أنه بيان للمجمل أم لا؟ فمن هاهنا مأخذ من يرى الوجوب- والأكثرون على الاستحباب- وإذا قلنا بالاستحباب: فهل يسجد للسهو إذا ترك منها شيئا ولو واحدة أو لا يسجد ولو ترك الجميع أو لا يسجد حتى يترك متعددا منها؟ اختلفوا فيه وليس له بهذا الحديث تعلق إلا أن يجعل مقدمة فيستدل به على أنه سنة ويضم إليه مقدمة أخرى: أن ترك السنة يقتضي السجود إن ثبت على ذلك دليل فيكون المجموع دليلا على السجود.
وأما التفرقة بين أن يكون المتروك مرة أو أكثر: فراجع إلى الاستحسان وتخفيف أمر المرة الواحدة ومذهب الشافعي: إن تركها لا يوجب السجود.
7- عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف: قريبا من السواء).
وفي رواية البخاري: «ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء».
قوله: «قريبا من السواء» قد يقتضي: إما تطويل ما العادة فيه التخفيف أو تخفيف ما العادة فيه التطويل إذا كان ثم عادة متقدمة وقد ورد ما يقتضي التطويل في القيام كقراءة ما بين الستين إلى المائة وكما ورد في التطويل في قراءة الظهر بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها وقد تكلم الفقهاء في الأركان الطويلة والقصيرة واختلفوا في الرفع من الركوع: هل هو ركن طويل أو قصير؟ ورجح أصحاب الشافعي: أنه ركن قصير وفائدة الخلاف فيه: أن تطويله يقطع الموالاة الواجبة في الصلاة ومن هذا قال بعض أصحاب الشافعي: إنه إذا طوله بطلب الصلاة وقال بعضهم: لا تبطل حتى ينقل إليه ركنا كقراءة الفاتحة أو التشهد.
وهذا الحديث يدل على أن الرفع من الركوع ركن طويل لأنه لا يتأتى أن تكون القراءة في الصلاة- فرضها ونفلها- بمقدار ما إذا فعل في الرفع من الركوع كان قصيرا وهذا الذي ذكر في الحديث- من استواء الصلاة- ذهب بعضهم إلى أنه الفعل المتأخر بعد ذلك التطويل وقد ورد في بعض الأحاديث: «وكانت صلاته بعد تخفيفا».
والذي ذكره المصنف عن رواية البخاري وهو قوله: «ما خلا القيام والقعود..» إلى آخره وذهب بعضهم إلى تصحيح هذه الرواية دون الرواية التي ذكر فيها القيام ونسب رواية ذكر القيام إلى الوهم وهذا بعيد عندنا لأن توهيم الراوي الثقة على خلاف الأصل- لاسيما إذا لم يدل دليل قوي- لا يمكن الجمع بينه وبين الزيادة على كونها وهما وليس هذا من باب العموم والخصوص حتى يحمل العام على الخاص فيما عدا القيام فإنه قد صرح في حديث البراء في تلك الرواية بذكر القيام.
ويمكن الجمع بينهما بأن يكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كان مختلفا فتارة يستوي الجميع وتارة يستوي ما عدا القيام والقعود وليس في هذا إلا أحد أمرين: إما الخروج عما تقتضيه لفظة كان إن كانت وردت من المداومة أو الأكثرية وإما أن يقال: الحديث واحد اختلفت رواته عن واحد فيقتضي ذلك التعارض ولعل هذا هو السبب الذي دعا من ذكرنا عنه أنه نسب تلك الرواية إلى الوهم ممن قاله.
وهذا الوجه الثاني أعني اتحاد الرواية أقوى من الأولى في وقوع التعارض وإن احتمل غير ذلك على الطريقة الفقهية.
ولا يقال: إذا وقع التعارض فالذي أثبت التطويل في القيام لا يعارضه من نفاه فإن المثبت مقدم على النافي.
لأنا نقول الرواية الأخرى تقتضي بنصها عدم التطويل في القيام وخروج تلك الحالة- أعني حالة القيام والقعود- عن بقية حالات أركان الصلاة فيكون النفي والإثبات إذا انحصرا في محل واحد تعارضا إلا أن يقال باختلاف هذه الأحوال بالنسبة إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يبقى فيها انحصار في محل واحد بالنسبة إلى الصلاة ولا يعترض على هذا إلا بما قدمناه من مقتضى لفظة كان أن وجدت في حديث أو كون الحديث واحدا عن مخرج واحد اختلف فيه فلينظر ذلك في الروايات ويحقق الاتحاد أو الاختلاف في مخرج الحديث والله أعلم.
8- عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله قال: (إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا) قال ثابت: (فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل: قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي).
قوله لا آلو أي لا أقصر وقد قيل: إن الألو يكون بمعنى التقصير وبمعنى الاستطاعة معا والسياق يرشد إلى المراد والألو على مثال: العتو ويقال: الألي على مثال العتي والماضي ألا وقد يقال في هذا المعنى ألا بالتشديد.
وقوله أن أصلي أي في أن أصلي وتقديم أنس رضي الله عنه لهذا الكلام أمام روايته: ليدل السامعين على التحفظ لما يأتي به ويحقق عندهم المراقبة لاتباع أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث: أصرح في الدلالة على أن الرفع من الركوع ركن طويل بل هو- والله أعلم- نص فيه فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف ذكر في أنه ركن قصير وهو ما قيل: إنه لم يسن فيه تكرار التسبيحات على الاسترسال كما سنت القراءة في القيام والتسبيحات في الركوع والسجود مطلقا.
9- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
10- عن أبي قلابة- عبد الله بن زيد الجرمي البصري- قال: جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقلت لأبي قلابة: كيف كان يصلي؟ فقال: مثل صلاة شيخنا هذا وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض.
أراد بشيخهم: أبا بريد- عمرو بن سلمة الجرمي- ويقال أبو يزيد.
حديث أنس بن مالك: يدل على طلب أمرين في الصلاة: التخفيف في حق الإمام مع الإتمام وعدم التقصير وذلك هو الوسط العدل والميل إلى أحد الطرفين خروج عنه أما التطويل في حق الإمام: فإضرار بالمأمومين وقد تقدم ذلك التصريح بعلته وأما التقصير عن الإتمام: فبخس لحق العبادة ولا يراد بالتقصير ههنا: ترك الواجبات فإن ذلك مفسدة موجب للنقص الذي يرفع حقيقة الصلاة وإنما المراد- والله أعلم- التقصير عن المسنونات والتمام بفعلها.
والكلام على حديث أبي قلابة من وجوه:
أحدها: أن هذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم وليس من شرط هذا الكتاب وأيضا فإن البخاري خرجه من طرق منها رواية وهيب وأكثر ألفاظ هذا الرواية التي ذكرها المصنف: هي رواية وهيب وفي آخرها في كتاب البخاري: «وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام» وفي رواية خالد عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث الليثي: «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان في وتر من صلاته: لم ينهض حتى يستوي قاعدا».
الثاني: مالك بن الحويرث ويقال: ابن الحارث ويقال: حويرثة والأول أصح- أحد من سكن البصرة من الصحابة مات سنة أربع وتسعين ويكنى أبا سليمان.
وشيخهم المذكور في الحديث هو أبو بريد- بضم الباء الموحدة وفتح الراء- عمرو بن سلمة- الجرمي- بفتح الجيم وسكون الراء المهملة.
الثالث: قول: «إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة» أي أصلي صلاة التعليم لا أريد الصلاة لغير ذلك ففيه دليل على جواز مثل ذلك وأنه ليس من باب التشريك في العمل.
الرابع: قوله: (أصلي كيف رأيت رسول الله يصلي) يدل على البيان بالفعل وأنه يجري مجرى البيان بالقول وإن كان البيان بالقول أقوى في الدلالة على آحاد الأفعال إذا كان القول ناصا على كل فرد منها.
الخمس: اختلف الفقهاء في جلسة الاستراحة عقيب الفراغ من الركعة الأولى والثالثة فقال بها الشافعي في قول وكذا غيره من أصحاب الحديث وأباها مالك وأبو حنيفة وغيرهما.
وهذا الحديث يستدل به القائلون بها وهو ظاهر في ذلك وعذر الآخرين عنه: أنه يحمل على أنها بسبب الضعف للكبر كما قال المغيرة بن حكيم إنه رأى عبد الله بن عمر يرجع من سجدتين من الصلاة على صدور قدميه فلما انصرف ذكرت ذلك له فقال: إنها ليست من سنة الصلاة وإنما أفعل ذلك من أجل أن أشتكي وفي حديث آخر غير هذا في فعل آخر لابن عمر أنه قال إن رجلي لا تحملاني.
والأفعال إذا كانت للجبلة أو ضرورة الخلقة لا تدخل في أنواع القرب المطلوبة فإن تأيد هذا التأويل بقرينة تدل عليه مثل أن يتبين أن أفعاله السابقة على حالة الكبر والضعف: لم يكن فيها هذه الجلسة أو يقترن فعلها بحالة الكبر من غير أن يدل دليل على قصد القربة فلا بأس بهذا التأويل.
وقد ترجح في علم الأصول: أن مالم يكن من الأفعال مخصوصا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا جاريا مجرى أفعال الجبلة ولا ظهر أنه بيان لمجمل ولا علم صفته من وجوب أو ندب أو غيره فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا فإن ظهر: فمندوب وإلا فمباح لكن لقائل أن يقول: ما وقع في الصلاة فالظاهر أنه من هيئتها لاسيما الفعل الزائد الذي تقتضي الصلاة منعه وهذا قوي إلى أن تقوم القرينة على أن ذلك الفعل كان بسبب الكبر أو الضعف فحينئذ يظهر بتلك القرينة أن ذلك أمر جبلي فإن قوي ذلك باستمرار عمل السلف على ترك ذلك الجلوس فهو زيادة في الرجحان.
========
11- عن عبد الله بن مالك- بن بحينة- رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه).
الكلام عليه من وجهين:
أحدهما: عبد الله بن مالك بن بحينة وبحينة أمه- بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وبعدها ياء ساكنة ونون مفتوحة- وأبوه مالك بن القشب- بكسر القاف وسكون الشين المعجمة وآخره باء- أزدري النسب من أزدشنوءة توفي في آخر خلافة معاوية وهو أحد من نسب إلى أمه فعلى هذا إذا وقع عبد الله في موضوع رفعن وجب أن ينون مالك أبوه ويرفع ابن لأنه ليس صفة لمالك فيترك تنوينه ويجر وإنما هو صفة لعبد الله بن مالك وإذا وقع عبد الله في موضع جر: نون مالك وجر ابن لأنه ليس ابن صفة لمالك وهذا من المواضع التي فيها صفة الإعراب على معرفة التاريخ وذلك مثل محمد بن حبيب اللغوي صاحب كتاب المحبر في المؤتلف والمختلف في قبائل العرب فإن حبيب أمه لا أبوه فعلى هذا يمتنع صرفه ويقال: محمد بن حبيب وقيل: إنه أبوه.
ومن غريب ما وقفت عليه في هذا محمد بن شرف القيرواني الأديب الشاعر المجيد: أنه منسوب إلى أمه شرف ولذلك نظائر لو تتبعت لجمع منها قدر كثير وقد قيل إن بحينة أم أبيه مالك والأول أصح وقد اعتنى بجمعها بعض الحفاظ.
الثاني: في الحديث دليل على استحباب التجافي في اليدين عن الجنبين في السجود وهو الذي يسمى تخوية.
وفيه أيضا عدم بسط الذراعين على الأرض فإنه لا يرى بياض الإبطين مع بسطهما والتخوية مستحبة للرجال لأن فيها أعمال اليدين في العبادة وإخراج هيئتها عن صفة التكاسل والاستهانة إلى صفة الاجتهاد وقد يكون في ذلك أيضا على ما أشار إليه بعضهم بعض الحمل على الوجه الذي يتأثر بما يلاقيه من الأرض وهذا مشروط بأن لا يكون هذا الحمل عن الوجه مزيلا للتحامل على الأرض فإنه قد اشترط في السجود والفقهاء خصوا ذلك بالرجال وقالوا: المرأة تضم بعضها إلى بعض لأن المقصود منها التصون والتجمع والتستر وتلك الحالة أقرب إلى هذا المقصود.
12- عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: (سألت أنس بن مالك: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم).
سعيد بن يزيد بن مسلمة أبو سلمة أزدي طاحي- بالطاء المهملة والحاء المهملة أيضا- منسوب إلى طاحية بطن من الأزد من أهل البصرة متفق على الاحتجاج بحديثه.
والحديث دليل على جواز الصلاة في النعال ولا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة.
فإن قلت: لعله من باب الزينة وكمال الهيئة فيجري مجرى الأردية والثياب التي يستحب التجمل بها في الصلاة؟.
قلت: هو- وإن كان كذلك- إلا أن ملابسته للأرض التي تكثر فيها النجاسات مما يقصر به عن هذا المقصود ولكن البناء على الأصل إن انتهض دليلا على الجواز فيعمل به في ذلك والقصور الذي ذكرناه عن الثياب المتجمل بها يمنع من إلحاقه بالمستحبات إلا أن يرد دليل شرعي بإلحاقه بما يتجمل به فيرجع إليه ويترك هذا النظر.
ومما يقوي هذا النظر- إن لم يرد دليل على خلافه- أن التزين في الصلاة من الرتبة الثالثة من المصالح وهي رتبة التزيينات والتحسينات ومراعاة أمر النجاسة من الرتبة الأولى وهي الضروريات أو من الثانية وهي الحاجيات على حسب اختلاف العلماء في حكم إزالة النجاسة فيكون رعاية الأولى بدفع ما قد يكون مزيلا لها أرجح بالنظر إليها ويعمل بذلك في عدم الاستحباب وبالحديث في الجواز وترتب كل حكم على ما يناسبه ما لم يمنع من ذلك مانع والله أعلم.
وقد يكون في الحديث دليل على جواز البناء على الأصل في حكم النجاسات والطهارات.
واختلف الفقهاء فيما إذا عارضه الغالب: أيهما يقدم؟ وقد جاء في الحديث الأمر بالنظر إلى النعلين ودلكهما إن رأى فيهما أذى أو كما قال: فإذا كان الغالب إصابة النجاسة: فالظاهر رؤيتها لأمره بالنظر فإذا رآها فالظاهر دلكهما لأمره بذلك عند الرؤية فإذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم وكان طهورا لهما على ما جاء في الحديث لم يكن ذلك من باب تعارض الأصل والغالب بل يكون من ذلك الباب: ما لو صلى فيهما من غير ذلك فإن قلت: الأصل عدم دلكه قلت: لكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر بشيء من هذا لم يتركه كما بيناه والظن المستفاد بهذا راجح على الأصل الذي ذكرته وهو أنه لم يدلكه.
13- عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم).
14- ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
أبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي بكسر الراء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد الياء- ابن بلدمة- بضم الباء والدال وفتحهما- مات بالمدينة سنة أربع وخمسين وقيل: مات بخلافة علي بالكوفة وهو ابن سبعين سنة ويقال: سنة أربعين وقيل إنه كان بدريا ولا خلاف أنه شهد أحدا وما بعدها والكلام على هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: النظر في هذا الحمل ووجه إباحته.
الثاني: النظر فيما يتعلق بطهارة ثوب الصبية.
فأما الأول: فقد تكلموا في تخريجه على وجوه.
أحدها: أن ذلك في النافلة قد تقع في بعض الأركان والشرائط كان ذلك تأنيسا بالمسامحة في مثل هذا ورد هذا القول بما وقع في بعض الروايات الصحيحة (بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر خرج علينا حاملا أمامة وذكر الحديث) وظاهره يقتضي: أن ذلك كان في الفريضة وإن كان يحتمل أنه في نافلة سابقة على الفريضة ومما يبعد هذا التأويل أن الغالب في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت في الفرائض دون النوافل وهذا يتوقف على أن يكون الدليل قائما على كون النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما وقد ورد ذلك مصرحا به في رواية سفيان بن عيينة بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه الحديث).
الوجه الثاني: أن هذا الفعل كان للضرورة وهو مروي أيضا عن مالك وفرق بعض أتباعه بين أن تكون الحاجة شديدة بحيث لا يجد من يكفيه أمر الصبي ويخشى عليه فهذا يجوز في النافلة والفريضة وإن كان حمل الصبي في الصلاة على معنى الكفاية لأمه لشغلها بغير ذلك: لم يصلح إلا في النافلة.
وهذا أيضا عليه من الإشكال: أن الأصل استواء الفرض والنفل في الشرائط والأركان إلا ما خصه الدليل.
الوجه الثالث: أن هذا منسوخ وهو مروي أيضا عن مالك قال أبو عمر: ولعل هذا نسخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها وقد رد هذا بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة لشغلا» كان قبل بدر عند قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة فإن قدوم زينب وابنتها إلى المدينة كان بعد ذلك ولو لم يكن الأمر كذلك لكان فيه إثبات النسخ بمجرد الاحتمال.
الوجه الرابع: أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم ذكره القاضي عياض وقد قيل: هذا مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يؤمن من الطفل البول وغير ذلك على حامله وقد يعصم منه النبي صلى الله عليه وسلم وتعلم سلامته من ذلك مدة حمله.
وهذا الذي ذكره إن كان دليلا على الخصوصية فبالنسبة إلى ملابسة الصبية مع احتمال خروج النجاسة منها وليس في ذلك تعرض لأمر الحمل بخصوصه الذي الكلام فيه ولعل قائل هذا لما أثبت الخصوصية في الحمل بما ذكره- من اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بجواز علمه بعصمة الصبية من البول حالة الحمل- تأنس بذلك فجعله مخصوصا بالعمل الكثير أيضا فقد يفعلون ذلك في الأبواب التي طهرت خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم فيها ويقولون: خص بكذا في هذا الباب فيكون هذا مخصوصا إلا أن هذا ضعيف من وجهين.
أحدهما: أنه لا يلزم من الاختصاص في أمر: الاختصاص في غيره بلا دليل فلا يدخل القياس في مثل هذا والأصل عدم التخصيص.
الثاني: أن الذي قرب دعوه الاختصاص لجواز الحمل: هو ما ذكره من جواز اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم بالعصمة من البول وهذا معنى مناسب لاختصاصه بجواز ملابسة للصبية في الصلاة وهو معدوم فيما نتكلم فيه من أمر الحمل بخصوصه فالقول بالاختصاص فيه قول بلا علة تناسب الاختصاص.
الوجه الخامس: حمل هذا الفعل على أن تكون أمامة في تعلقها بالرسول صلى الله عليه وسلم وتأنسها به كانت تتعلق به بنفسها فيتركها فإذا أراد السجود وضعها: فإذن الفعل الصادر منه: إنما هو الوضع لا الرفع فيقل العمل الذي توهم من الحديث ولقد وقع لي أن هذا حسن فإن لفظة وضع لا تساوي حمل في قضاء فعل الفاعل فإنا نقول لبعض الحوامل حمل كذا وإن لم يكن هو فعل الحمل ولا يقال وضع إلا بفعل حتى نظرت في بعض طرق الحديث الصحيحة فوجدت فيه فإذا قام أعادها وهذا يقتضي الفعل ظاهرا.
الوجه السادس: وهو معتمد بعض مصنفي أصحاب الشافعي وهو أن العمل الكثير إنما يفسد إذا وقع متواليا وهذه الأفعال قد لا تكون متوالية فلا تكون مفسدة والطمأنينة في الأركان- لاسيما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم- تكون فاصلة ولا شك أن مدة القيام طويلة فاصلة.
وهذا الوجه إنما يخرج به إشكال كونه عملا كثيرا ولا يتعرض لمطلق الحمل.
وأما الوجه الثاني- وهو النظر إلى الإشكال من حيث الطهارة- فهو يتعلق بمسألة تعارض الأصل والغالب في النجاسات ورجح هذا الحديث العمل بالأصل وصح في كلام الشافعي إشارة إلى هذا قال رحمه الله: وثوب أمامة ثوب صبي ويرد على هذا أن هذه حالة فردة والناس يعتادون تنظيف الصبيان في بعض الأوقات وتنظيف ثيابهم عن الأقذار وحكايات الأحوال لا عموم لها فيحتمل أن يكون هذا وقع في تلك الحالة التي وقع فيها التنظيف والله أعلم.
وقوله ولأبي العاص بن الربيع هذا هو الصحيح في نسبه عند أهل النسب ووقع في رواية مالك لأبي العاص بن ربيعة فقال بعضهم: هو جد له وهو أبو العاص بن الربيع بن ربيعة فنسب في رواية مالك إلى جده وهذا ليس بمعروف.
ومنهم من استدل بالحديث على أن لمس المحارم أو من لا يشتهي: غير ناقض للطهارة وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون من وراء حائل وهذا يستمد مما ذكرناه نم أن حكايات الحال لا عموم لها.
15- عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب».
لعل (الاعتدال) هاهنا محمول على أمر معنوي وهو وضع هيئة السجود موضع الشرع وعلى وفق الأمر فإن الاعتدال الخلقي الذي طلبناه في الركوع لا يتأدى في السجود فإنه ثم: استواء الظهر والعنق والمطلوب هنا: ارتفاع الأسافل على الأعالي حتى لو تساويا ففي بطلان الصلاة وجهان لأصحاب الشافعي ومما يقوي هذا الاحتمال: أنه قد يفهم من قوله عقيب ذلك: «ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» أنه كالتتمة للأول وأن الأول كالعلة له فيكون الاعتدال الذي هو فعل الشيء على وفق الشرع علة لترك الانبساط انبساط الكلب فإنه مناف لوضع الشرع وقد تقدم الكلام في كراهة هذه الصفة.
وقد ذكر في هذا الحديث الحكم مقرونا بعلته فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة ومثل هذا التشبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد التنفير عن الرجوع في الهبة قال: «مثل الراجع في هبته: كالكلب يعود في قيئه» أو كما قال.
==============
باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل» فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارجع فصل فإن لم تصل»- ثلاثا- فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيره فعلمني, فقال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا وافعل ذلك في صلاتك كلها».
الكلام عليه من وجوه:
الأول: فيه الرفق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامله بالرفق فيما أمره به كما قال معاوية بن الحكم السلمي فما كهرني ووصف رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم به وكذلك قال في الأعرابي: «لا تزرموه» ولم يعنفه وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وفيه تكرار رد السلام مرارا إذا كرره المسلم كما ورد في بعض طرقه مع الفصل القريب الثاني: تكرر من الفقهاء الاستدلال على وجوب ما ذكر في الحديث وعدم وجوب ما لم يذكر فيه فأما وجوب ما ذكر فيه: فلتعلق الأمر به وأما عدم وجوب غيره: فليس ذلك لمجرد كون الأصل عدم الوجوب بل لأمر زائد على ذلك وهو أن الموضع موضع تعليم وبيان للجاهل وتعريف لواجبات الصلاة وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر.
ويقوي مرتبة الحصر: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي وما لم تتعلق به إساءته من واجبات الصلاة وهذا يدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت فيه الإساءة فقط.
فإذا تقرر هذا: فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه- وكان مذكورا في هذا الحديث- فلنا أن نتمسك به في وجوبه وكل موضع اختلفوا في وجوبه ولم يكن مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في عدم وجوبه لكونه غير مذكور في هذا الحديث على ما تقدم من كونه موضع تعليم وقد ظهرت قرينة مع ذلك على قصد ذكر الواجبات وكل موضع اختلف في تحريمه فلنا أن نستدل بهذا الحديث على عدم تحريمه لأنه لو حرم لوجب التلبس بضده فإن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده ولو كان التلبس بالضد واجبا لذكر ذلك على ما قررناه.
فصار من لوازم النهي: الأمر بالضد ومن الأمر بالضد: ذكره في الحديث على ما قررناه فإذا انتفى ذكره- أعني الأمر بالتلبس بالضد- انتفى ملزومه وهو الأمر بالضد وإذا انتفى الأمر بالضد: انتفى ملزومه وهو النهي عن ذلك الشيء.
فهذه الطرق الثلاث يمكن الاستدلال بها على شيء كثير من المسائل المتعلقة بالصلاة إلا أن على طالب التحقيق في هذا ثلاث وظائف.
أحدها: أن يجمع طرق هذا الحديث ويحصي الأمور المذكورة فيه ويأخذ بالزائد فالزائد فإن الأخذ بالزائد واجب.
وثانيها: إذا قام دليل على أحد أمرين: إما عدم الوجوب أو الوجوب فالواجب العمل به ما لم يعارضه ما هو أقوى منه وهذا في باب النفي يجب التحرز فيه أكثر فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين فيعمل به.
وعندنا: أنه إذا استدل على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في الحديث وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر: فالمقدم صيغة الأمر وإن كان يمكن أن يقال: الحديث دليل على عدم الوجوب: وتحمل صفة الأمر على الندب لكن عندنا أن ذلك أقوى لأن عدم الوجوب متوقف على مقدمة أخرى وهو أن عدم الذكر في الرواية: يدل على عدم الذكر في نفس الأمر وهذه غير المقدمة التي قررناها وهو أن عدم الذكر يدل على عدم الوجوب لأن المراد ثمة أن عدم الذكر في نفس الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على عدم الوجوب فإنه موضع بيان وعدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر في الرواية وعدم الذكر في الرواية إنما يدل على الذكر في نفس الأمر بطريق أن يقال: لو كان لذكر أو بأن الأصل عدمه وهذه المقدمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب.
وأيضا فالحديث الذي فيه الأمر إثبات لزيادة فيعمل بها.
هذا البحث كله بناء على إعمال صيغة الأمر في الوجوب الذي هو ظاهر فيها والمخالف يخرجها عن حقيقتها بدليل عدم الذكر فيحتاج الناظر المحقق إلى الموازنة بين الظن المستفاد من عدم الذكر في الرواية وبين الظن المستفاد من كون الصيغة للوجوب والثاني عندنا أرجح.
وثالثها: أن يستمر على طريقة واحدة ولا يستعمل في مكان ما يتركه في آخر فيتثعلب نظره وأن يستعمل القرائن المعتبرة في ذلك استعمالا واحدا فإنه قد يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير من المتناظرين.
الوجه الثالث من الكلام على الحديث: قد تقدم أنه قد يستدل- حيث يراد نفي الوجوب- بعدم الذكر في الحديث وقد فعلوا هذا في مسائل.
منها: أن الإقامة غير واجبة خلافا لمن قال بوجوبها من حيث إنها لم تذكر في الحديث وهذا- على ما قررناه- يحتاج إلى عدم رجحان الدليل الدال على وجوبها عند الخصم وعلى أنها غير مذكورة في جميع طرق هذا الحديث وقد ورد في بعض طرقه: الأمر بالإقامة فإن صح فقد عدم أحد الشرطين اللذين قررناهما.
ومنها: الاستدلال على عدم وجوب دعاء الاستفتاح حيث لم يذكر وقد نقل عن بعض المتأخرين- ممن لم يرسخ قدمه في الفقه ممن ينسب إلى غير الشافعي- أن الشافعي يقول بوجوبه وهذا غلط قطعا فإن لم ينقله غيره فالوهم منه وإن نقله غيره- كالقاضي عياض رحمه الله ومن هو في مرتبته من الفضلاء- فالوهم منهم لا منه.
ومنها: استدلال بعض المالكية به على عدم وجوب التشهد بما ذكرناه من عدم الذكر ولم يتعرض هذا المستدل بالسلام لأن للحنفية أن يستدلوا به على عدم وجوب السلام بعينه مع أن المادة واحة إلا أن الدليل المعارض لوجوب السلام أقوى من الدليل على عدم وجوبه فلذلك تركه بخلاف التشهد فهذا يقال فيه أمران:
أحدهما: أن دليل إيجاب التشهد هو الأمر وهو أرجح مما ذكرناه.
وبالجملة: فله أن يناظر على الفرق بين الرجحانين ويمهد عذره ويبقي النظر ثمة فيما يقال.
الثاني: أن دلالة اللفظ على الشيء لا تنفي معارضة المانع الراجح فإن الدلالة أمر يرجع إلى اللفظ أو إلى أمر لو جرد النظر إليه لثبت الحكم وذلك لا ينفي وجود المعارض.
نعم لو استدل بلفظ يحتمل أمرين على السواء لكانت الدلالة منتفية وقد يطلق الدليل على الدليل التام الذي يجب العمل به وذلك يقتضي عدم وجود المعارض الراجح والأولى: أن يستعمل في دلالة ألفاظ الكتاب والسنة الطريق الأول ومن ادعى المعارض الراجح فعليه البيان.
الوجه الرابع: من الكلام على الحديث: استدل بقوله: «فكبر» على وجوب التكبير بعينه وأبو حنيفة يخالف فيه ويقول: إذا أتى بما يقتضي التعظيم كقوله الله أجل أو أعظم كفى وهذا نظر منه إلى المعنى وأن المقصود التعظيم فيحصل بكل ما دل عليه وغيره اتبع اللفظ وظاهره تعيين التكبير ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات ويكثر ذلك فيها فالاحتياط فيها الاتباع.
وأيضا: فالخصوص قد يكون مطلوبا أعني خصوص التعظيم بلفظ الله أكبر وهذا لأن رتب هذه الأذكار مختلفة كما تدل عليه الأحاديث فقد لا يتأدى برتبة ما يقصد من أخرى ولا يعارض هذا: أن يكون أصل المعنى مفهوما فقد يكون التعبد واقعا في التفصيل كما أنا نفهم أن المقصود من الركوع التعظيم بالخضوع ولو أقام مقامه خضوعا آخر لم يكتف به ويتأيد هذا باستمرار العمل من الأمة على الدخول في الصلاة بهذه اللفظة أعني الله أكبر.
وأيضا: فقد اشتهر بين أهل الأصول أن كل علة مستنبطة تعود على النص بالإبطال أو التخصيص فهي باطلة ويخرج على هذا حكم هذه المسألة فإنه إذا استنبط من النص أن المقصود مطلق التعظيم بطل خصوص التكبير وهذه القاعدة الأصولية قد ذكر بعضهم فيها نظرا وتفصيلا وعلى تقدير تقريرها مطلقا يخرج ما ذكرناه.
الوجه الخامس: قوله: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» يدل على وجوب القراءة في الصلاة ويستدل به من يرى أن الفاتحة غير معينة ووجه ظاهر فإنه إذا تيسر غير الفاتحة فقارئه يكون ممتثلا فيخرج عن العهدة والذي عينوا الفاتحة للوجوب: وهم الفقهاء الأربعة إلا أن أبا حنيفة منهم- على ما نقل عنه- جعلها واجبة وليست بفرض على أصله في الفرق بين الواجب والفرض اختلف من نصر مذهبهم في الجواب عن الحديث وذكر فيه طرق.
الطريق الأول: أن يكون الدليل الدال على تعيين الفاتحة كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» مثلا مفسرا للمجمل الذي في قوله: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن» وهذا إن أريد بالمجمل ما يريده الأصوليون به فليس كذلك لأن المجمل ما لا يتضح المراد منه وقوله: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن» متضح أن المراد يقع امتثاله بفعل كل ما تيسر حتى لو لم يرد قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» لاكتفينا في الامتثال بكل ما تيسر وإن أريد بكونه مجملا أنه لا يتعين فرد من الأفراد فهذا لا يمنع من الاكتفاء بكل فرد ينطلق عليه ذلك الاسم كما في سائر المطلقات.
الطريق الثاني: أن يجعل قوله: «اقرأ ما تيسر معك» مطلقا يقيد أو عاما يخصص بقوله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهذا يرد عليه أن يقال: لا نسلم أنه مطلق من كل وجه بل هو مقيد بقيد التيسير الذي يقتضي التخيير في قراءة كل فرد من أفراد المتيسرات وهذا القيد المخصوص يقابل التعيين وإنما نظير المطلق الذي لا ينافي التعيين أن يقول: اقرأ قرآنا ثم يقول: اقرأ فاتحة الكتاب فإنه يحمل المطلق على المقيد حينئذ والمثال الذي يوضح ذلك أنه لو قال لغلامه: اشتر لي لحما ولا تشتر إلا لحم الضأن لم يتعارض ولو قال: اشتر لي أي لحم شئت ولا تشتر إلا لحم الضأن في وقت واحد لتعارض إلا أن يكون أراد بهذه العبارة ما يراد بصيغة الاستثناء.
وأما دعوى التخصيص: فأبعد لأن سياق الكلام يقتضي تيسير الأمر عليه وإنما يقرب هذا إذا جعلت ما بمعنى لذى وأريد بها شيء معين وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها فهي المتيسرة.
الطريق الثالث: أن يحمل قوله: «ما تيسر» على ما زاد على فاتحة الكتاب ويدل على ذلك بوجهين أحدهما: الجمع بينه وبين دلائل إيجاب الفاتحة.
والثاني: ما ورد في بعض رواية أبي داود: «ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ».
وهذه الرواية- إذا أصحت- تزيل الإشكال بالكلية لما قررناه من أنه يؤخذ بالزائد إذا جمعت طرق الحديث ويلزم من هذه الطريقة: إخراج صيغة الأمر عن ظاهرها عند من لا يرى وجوب زائد عن الفاتحة وهم الأكثرون.
الوجه السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا» يدل على وجوب الركوع واستدلوا به على وجوب الطمأنينة وهو كذلك دال عليها ولا يتخيل هاهنا ما تكلم الناس فيه من أن الغاية: هل تدخل في المغيي أم لا؟ أو ما قيل من الفرق بين أن تكون من جنس المغييا أو لا فإن الغاية هاهنا- وهي الطمأنينة- وصف للركوع لتقييده بقوله راكعا ووصف الشيء معه حتى لو فرضنا أنه ركع ولم يطمئن بل رفع عقيب مسمى الركوع لم يصدق عليه أنه جعل مطلق الركوع مغيا بالطمأنينة.
وجاء بعض المتأخرين فأغرب جدا وقال: ما تقريره: إن الحديث يدل على عدم وجوب الطمأنينة من حيث إن الأعرابي صلى غير مطمئن ثلاث مرات والعبادة بدون شرطها فاسدة حرام فلو كانت الطمأنينة واجبة لكان فعل الأعرابي فاسدا ولو كان ذلك لم يقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه في حال فعله وإذا تقرر بهذا التقدير عدم الوجوب: حمل الأمر في الطمأنينة على الندب ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنك لم تصل» على تقدير لم تصل صلاة كاملة.
ويمكن أن يقال: إن فعل الأعرابي بمجرده لا يوصف بالحرمة عليه لأن شرطه علمه بالحكم فلا يكون التقرير تقريرا على محرم إلا أنه لا يكفي ذلك في الجواب فإنه فعل فاسد والتقرير يدل على عدم فساده وإلا لما كان التقرير في موضع ما يدل على الصحة.
وقد يقال: إن التقرير ليس بدليل على الجواز مطلقا بل لابد من انتفاء الموانع وزيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم لاسيما مع عدم خوف الفوات إما بناء على ظاهر الحال أو بوحي خاص.
الوجه السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم ارفع حتى تعتدل قائما» يدل على وجوب الرفع خلافا لمن نفاه ويدل على وجوب الاعتدال في الرفع وهو مذهب الشافعي في موضعين وللمالكية خلاف فيهما وقد قيل في توجيه عدم وجوب الاعتدال أن المقصود من الرفع الفصل وهو يحصل بدون الاعتدال وهذا ضعيف لأنا نسلم أن الفصل مقصود ولا نسلم أنه كل المقصود وصيغة الأمر دلت على أن الاعتدال مقصود مع الفصل فلا يجوز تركها.
وقريب من هذا في الضعف: استدلال بعض من قال بعدم وجوب الطمأنينة بقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فلم يأمرنا بما زاد على ما يسمى ركوعا وسجودا وهذا واه جدا فإن الأمر بالركوع والسجود يخرج عنه المكلف بمسمى الركوع والسجود كما ذكر وليس الكلام فيه وإنما الكلام في خروجه عن عهدة الأمر الآخر وهو الأمر بالطمأنينة فإنه يجب امتثاله كما يجب امتثال الأول.
الوجه الثامن: قوله: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا» والكلام فيه كالكلام في الركوع.
وكذلك قوله: «ثم ارفع حتى تطمئن جالسا» فيما يستنبط منه.
الوجه التاسع: قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» يقتضي وجوب القراءة في جميع.
الركعات وإذا ثبت أن الذي أمر به الأعرابي: هو قراءة الفاتحة: دل على وجوب قراءتها في جميع الركعات وهو مذهب الشافعي وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال:
أحدها: الوجوب في كل ركعة.
والثاني: الوجوب في الأكثر.
والثالث: الوجوب في ركعة واحدة.
==============
http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب القراءة في الصلاة:
1- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري سالمي عقبي بدري يكنى أبا الوليد توفي بالشام وقبره معروف به على ما ذكر يقال: توفي سنة أربع وثلاثين بالرملة وقيل: ببيت المقدس.
والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ووجه الاستدلال منه ظاهر إلا أن بعض علماء الأصول اعتقد في مثل هذا اللفظ الإجمال من حيث إنه يدل على نفي الحقيقة وهي غير منتفية فيحتاج إلى إضمار ولا سبيل إلى إضمار كل محتمل لوجهين:
أحدهما: أن الإضمار إنما احتيج إليه للضرورة والضرورة تندفع بإضمار فرد ولا حاجة لإضمار أكثر منه.
وثانيهما: أن إضمار الكل قد يتناقض فإن إضمار الكمال يقتضي إثبات أصل الصحة ونفي الصحة يعارضه وإذا تعين إضمار فرد فليس البعض أولى من البعض فتعين الإجمال.
وجواب هذا: أنا لا نسلم أن الحقيقة غير منتفية وإنما تكون غير منتفية لو حمل لفظ الصلاة على غير عرف الشرع وكذلك لفظ الصيام وغيره أما إذا حمل على عرف الشرع فيكون منتفيا حقيقة ولا يحتاج إلى الإضمار المؤدي إلى الإجمال ولكن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لأنه الغالب ولأنه المحتاج إليه فيه فإنه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان موضوعات اللغة.
وقوله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» قد يستدل به من يرى وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن كل ركعة تسمى صلاة وقد يستدل به من يرى وجوبها في كل ركعة واحدة بناء على أنه يقتضي حصول اسم الصلاة عند قراءة الفاتحة فإذا حصل مسمى قراءة الفاتحة في كل ركعة وجب أن تحصل الصلاة والمسمى يحصل بقراءة الفاتحة مرة واحدة فوجب القول بحصول مسمى الصلاة ويدل على أن الأمر كما يدعيه أن إطلاق اسم الكل على الجزء مجاز يؤيد قوله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد» فإنه يقتضي أن اسم الصلاة حقيقة في مجموعة الأفعال لا في كل ركعة لأنه لو كان حقيقة في كل ركعة لكان المكتوب على العباد: سبع عشرة صلاة.
وجواب هذا: أن غاية ما فيه دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في ركعة فإذا دل دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة كان مقدما عليه وقد استدل بالحديث على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم لأن صلاة المأموم صلاة فتنتفي عند انتفاء قراءة الفاتحة فإن وجد دليل يقتضي تخصيص صلاة المأموم من هذا العموم قدم على هذا وإلا فالأصل العمل به.
2- عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية يسمع الآية أحيانا وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية».
الأوليان تثنية الأولى وكذلك الأخريان وأما ما يسمع على الألسنة من الأولة وتثنيتها بالأولتين فمرجوح في اللغة.ويتعلق بالحديث أمور:
أحدها: يدل على قراءة السورة في الجملة مع الفاتحة وهو متفق عليه والعمل متصل به من الأمة وإنما اختلفوا في وجوب ذلك أو عدم وجوبه وليس في مجرد الفعل- كما قلنا- ما يدل على الوجوب إلا أن يتبين أنه وقع بيانا لمجمل واجب ولم يرد دليل راجح على إسقاط الوجوب وقد ادعى في كثير من الأفعال التي قصد إثبات وجوبها: أنها بيان لمجمل وقد تقدم لنا في هذا بحث وهذا الموضع مما يحتاج من سلك تلك الطريقة إلى إخراجه عن كونه بيانا أو إلى أن يفرق بينه وبين ما ادعي فيه: كونه بيانا من الأفعال فإنه ليس معه في تلك المواضع إلا مجرد الفعل وهو موجود ههنا.
الثاني: اختلف العلماء في استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخريين وللشافعي قولان وقد يستدل بهذا الحديث على اختصاص القراءة بالأوليين فإنه ظاهر الحديث حيث فرق بين الأوليين والأخريين فيما ذكره من قراءة السورة وعدم قراءتها وقد يحتمل غير ذلك لاحتمال اللفظ لأن يكون أراد تخصيص الأوليين بالقراءة الموصوفة بهذه الصفة أعني التطويل في الأولى والتقصير في الثانية.
الثالث: يدل على أن الجهر بالشيء اليسير من الآيات في الصلاة السرية جائز مغتفر لا يوجب سهوا يقتضي السجود.
الرابع: يدل على استحباب تطويل الركعة الأولى بالنسبة إلى الثانية فيما ذكر فيه وأما تطويل القراءة في الأولى بالنسبة إلى القراءة في الثانية: ففيه نظر وسؤال على من رأى ذلك لكن اللفظ إنما دل على تطويل الركعة وهو متردد بين تطويلها بمحض القراءة وبمجموع منه القراءة فمن لم ير أن يكون مع القراءة غيرها وحكم باستحباب تطويل الأولى مستدلا بهذا الحديث: لم يتم له إلا بدليل من خارج على أنه لم يكن مع القراءة غيرها.
ويمكن أن يجاب عنه بأن المذكور هو القراءة.
والظاهر: أن التطويل والتقصير راجعان إلى ما ذكر قبلهما وهو القراءة.
الخامس: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف على اليقين لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها وإنما يفيد اليقين ذلك لو كان في الجهرية وكأنه أخذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها.
فإن قلت: قد يكون أخذ ذلك بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم.
قلت: لفظة كان ظاهرة في الدوام والأكثرية ومن ادعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقيب الصلاة دائما أو أكثريا بقراءة السورتين فقد أبعد جدا.
3- عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور».
4- عن البراء بن عازب رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فصلى العشاء الآخرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه».
جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف قرشي نوفلي يكنى أبا محمد ويقال: أبو عدي كان من حكماء قريش وسادتهم وكان يؤخذ عنه النسب أسلم فيما قيل: يوم الفتح وقيل: عام خيبر ومات بالمدينة سنة سبع وخمسين وقيل: سنة تسع وخمسين وحديثه وحديث البراء الذي بعده يتعلقان بكيفية القراءة في الصلاة وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أفعال مختلفة في الطول والقصر وصنف فيها بعض الحفاظ كتابا مفردا والذي اختاره الشافعية التطويل: في قراءة الصبح والظهر والتقصير في المغرب والتوسط في العصر والعشاء وغيره يوافق في الصبح والمغرب ويخالف الظهر والعصر والعشاء واستمر العمل من الناس على التطويل في الصبح والقصر في المغرب وما ورد على خلاف ذلك من الأحاديث فإن ظهرت له علة في المخالفة فقد يحمل على تلك العلة كما في حديث البراء بن عازب المذكور فإنه ذكر: «أنه في السفر» فمن يختار أوساط المفصل لصلاة العشاء الآخرة: يحمل ذلك على أن السفر مناسب للتخفيف لاشتغال المسافر وتعبه.
والصحيح عندنا: أن ما صح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يكثر مواظبته عليه فهو جائز من غيره كراهة كحديث جبير بن مطعم في قراءة الطور في المغرب وكحديث قراءة الأعراف فيها وما صحت المواظبة عليه فهو في درجة الرجحان في الاستحباب إلا أن غيره مما قرأنه النبي صلى الله عليه وسلم غيره مكروه وقد تقدم الفرق بين كون الشيء مستحبا وبين كون تركه مكروها.
وحديث جبير بن مطعم المتقدم مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه لما قدم في فداء الأساري وهذا النوع من الأحاديث قليل أعني التحمل قبل الإسلام والأداء بعده.
5- عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «سلوه لأي شيء صنع ذلك؟», فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن عز وجل فأنا أحب أن أقرأ بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبروه: أن الله تعالى يحبه».
قوله: فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يدل على أنه كان يقرأ بغيرها والظاهر أنه كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مع غيرها في ركعة واحدة ويختم بها في تلك الركعة وإن كان اللفظ يحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة يقرأ فيها السورة وعلى الأول: يكون ذلك دليلا على جواز الجمع بين السورتين في ركعة واحدة إلا أن يزيد الفاتحة معها.
وقوله: «إنها صفة الرحمن» يحتمل أن يراد به: أن فيها ذكر صفة الرحمن كما إذا ذكر وصف فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف ويحتمل أن يراد به غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولعلها خصت بذلك لاختصاصها بصفات الرب تعالى دون غيرها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله تعالى يحبه» يحتمل أن يريد بمحبته: قراءة هذه السورة ويحتمل أن يكون لما شهد به كلامه من محبته لذكر صفات الرب عز وجل وصحة اعتقاده.
6- عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}؟ فإنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة».
وأما الحديث جابر – وهو الحديث السادس- فلم يتعين في هذه الرواية في أي صلاة قيل له ذلك وقد عرف أن صلاة العشاء الآخرة: طول فيها معاذ بقومه فيدل ذلك على استحباب قراءة هذا القدر في العشاء الآخرة ومن الحسن أيضا: قراءة هذه السور بعينها فيها وكذلك كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القراءة المختلفة فينبغي أن تفعل.
ولقد أحسن من قال من العلماء اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله.
باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم:
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما: كانوا يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وفي رواية: «صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم».
2- ولمسلم: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا يذكرون: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها».
أما قوله: كانوا يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فقد تقدم الكلام في مثله وتأويل من تأول ذلك بأنه كان يبتدئ بالفاتحة قبل السورة.
وأما بقية الحديث فيستدل به من يرى عدم الجهر بالبسملة في الصلاة والعلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب أحدها: تركها سرا وجهرا وهو مذهب مالك.
الثاني: قراءتها سرا لا جهرا وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد.
الثالث: الجهر بها في الجهرية وهو مذهب الشافعي.
والمتيقن من هذا الحديث: عدم الجهر وأما الترك أصلا: فمحتمل مع ظهور ذلك في بعض الألفاظ وهو قوله: «لا يذكرون» وقد جمع جماعة من الحفاظ باب الجهر وهو أحد الأبواب التي يجمعها أهل الحديث وكثير منها- أو الأكثر- معتل وبعضها جيد الإسناد إلا أنه غير مصرح فيه بالقراءة في الفرض أو في الصلاة وبعضها فيه ما يدل على القراءة في الصلاة إلا أنه ليس بصريح الدلالة على خصوص التسمية ومن صحيحها: حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: كنت وراء أبي هريرة فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين وقال الناس: آمين ويقول كلما سجد: الله أكبر وإذا قام من الجلوس قال: الله أكبر ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقريب من هذا في الدلالة والصحة: حديث المعتمر بن سليمان: وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ويقول: ما آلوا أن أقتدي بصلاة أبي وقال أبي: ما آلوا أن أقتدي بصلاة أنس وقال أنس: ما آلوا أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحاكم أبو عبد الله: أن رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات.
وإذا ثبت شيء من ذلك فطريق أصحاب الجهر: أنهم يقدمون الإثبات على النفي ويحملون حديث أنس على عدم السماع وفي ذلك بعد مع طول مدة صحته.
وأيد المالكية ترك التسمية بالعمل المتصل من أهل المدينة والمتيقن من ذلك- كما ذكرناه في الحديث الأول- ترك الجهر إلا أن يدل دليل صريح على الترك مطلقا.
باب سجود السهو:
1- عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي- قال ابن سيرين: وسماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا- قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة- وفي القوم أبو بكر وعمر- فهابا أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: «لم أنس ولم تقصر», فقال: «أكما يقول ذو اليدين؟» فقالوا: نعم, «فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه: ثم سلم؟ قال: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم».
الكلام على هذا الحديث يتعلق بمباحث:
بحث يتعلق بأصول الدين وبحث يتعلق بأصول الفقه وبحث يتعلق بالفقه.
فأما البحث الأول: ففي موضعين:
أحدهما: أنه يدل على جواز السهو في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام وهو مذهب عامة العلماء والنظار وهذا الحديث مما يدل عليه وقد صرح صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود بأنه: «ينسى كما تنسون» وشذت طائفة من المتوغلين فقالت: لا يجوز السهو عليه وإنما ينسى عمدا ويتعمد صورة النسيان ليسن وهذا قطعا باطل لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه ينسى ولأن الأفعال العمدية تبطل الصلاة ولأن صورة الفعل النسياني كصورة الفعل العمدي وإنما يتميزان للغير بالإخبار.
والذين أجازا السهو قالوا: لا يقر عليه فيما طريقه البلاغ الفعلي واختلفوا: هل من شرط التنبيه الاتصال بالحادثة أو ليس من شرطه ذلك؟ بل يجوز التراخي إلى أن تنقطع مدة التبليغ وهو العمر وهذه الواقعة قد وقع البيان فيها على الاتصال.
وقد قسم القاضي عياض الأفعال إلى ما هو على طريقة البلاغ وإلى ما ليس على طريقة البلاغ ولا بيان للأحكام من أفعاله البشرية وما يختص به من عاداته وأذكار قلبه وأبي ذلك بعض من تأخر عن زمن وقال: إن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم أفعاله وإقراره: كله بلاغ واستنتج بذلك العصمة في الكل بناء على أن المعجزة تدل على العصمة فيما طريقه البلاغ وهذه كلها بلاغ فهذه كلها تتعلق بها العصمة- أعني القول والفعل والتقرير- ولم يصرح في ذلك بالفرق بين عمد وسهو وأخذ البلاغ في الأفعال: من حيث التأسي به صلى الله عليه وسلم فإن كان يقول بأن السهو والعمد سواء في الأفعال فهذا الحديث يرد عليه.
الموضوع الثاني: الأقوال وهي تنقسم إلى ما طريقه البلاغ والسهو فيه ممتنع ونقل فيه الإجماع كما يمتنع التعمد قطعا وإجماعا.
وأما طريق السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التي تستند الأحكام إليها ولا أخبار المعاد ولا ما يضاف إلى وحي فقد حكى القاضي عياض عن قوم: أنهم جوزوا السهو والغفلة في هذا الباب عليه إذ ليس من باب التبليغ الذي يتطرق به إلى القدح في الشريعة قال: والحق الذي لا مرية فيه: ترجيح قول من لم يجز ذلك على الأنبياء في خبر من الأخبار كما لم يجيزوا عليهم فيها العمد فإنه لا يجوز عليهم خلف من خبر لا عن قصد ولا سهو ولا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب.
والذي يتعلق بهذا من هذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «لم أنس ولم تقصر» وفي رواية أخرى: «كل ذلك لم يكن» واعتذر عن ذلك بوجوه:
أحدها: أن المراد لم يكن القصر والنسيان معا وكان الأمر كذلك.
وثانيهما: أن المراد الإخبار عن اعتقاد قلبه وظنه وكأنه مقدر النطق به ن وإن كان محذوفا لأنه لو صرح به- وقيل: لم يكن في ظنين ثم تبين أنه كان خلافه في نفس الأمر- لم يقتض ذلك أن يكون خلافه في ظن فإذا كان لو صرح به- كما ذكرناه- فكذلك إذا كان مقدرا مرادا.
وهذان الوجهان يختص أولهما برواية من روى: «كل ذلك لم يكن» وأما من روى: «لم أنس ولم تقصر» فلا يصح فيه هذا التأويل.
وأما الوجه الثاني: فهو مستمر على مذهب من يرى أن مدلول اللفظ الخبري هو الأمور الذهنية فإنه- وإن لم يذكر ذلك- فهو الثابت في نفس الأمر عند هؤلاء فيصير كالملفوظ به.
وثالثها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لم أنس» يجمل على السلام أي إنه كان مقصودا لأنه بناء على ظن التمام ولم يقطع سهوا في نفسه وإنما وقع السهو في عدد الركعات وهذا بعيد.
ورابعها: الفرق بين السهو والنسيان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهو ولا ينسى ولذلك نفى عن نفسه النسيان لأنه غفلة ولم يغفل عنها وكان شغله عن حركات الصلاة وما في الصلاة: شغلا بها لا غفلة عنها ذكره القاضي عياض.
وليس في هذا تخليص للعبارة عن حقيقة السهو والنسيان مع بعد الفرق بينهما في استعمال اللغة وكأنه متلوح في اللفظ: أن النسيان عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة والسهو عدم الذكر لأمر يتعلق بها ويكون النسيان الإعراض عن تفقد أمورها حتى يحصل عدم الذكر لا لأجل الإعراض وليس في هذا- بعد ما ذكرناه- تفريق كلي بين السهو والنسيان.
وخامسها: ما ذكره القاضي عياض: أنه ظهر له ما هو أقرب وجها وأحسن تأويلا وهو أنه إنما أنكر صلى الله عليه وسلم نسبة النسيان المضاف إليه وهو الذي نهى عنه بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا ولكنه نُسِّيَ» وقد روي: «إني لا أنسى» على النفي: «ولكني أُنَسَّي» على النفي وقد شك الراوي- على رأي بعضهم- في الرواية الأخرى: هل قال أنسي أو أنسى وأن أو هناك للشك وقيل: بل للتقسيم وأن هذا يكون منه مرة من قبل شغله وسهوه ومرة يغلب على ذلك ويجبر عليه ليسن فلما سأله السائل بذلك اللفظ أنكره وقال له: «كل ذلك لم يكن» وفي الرواية الأخرى: «لم أنس ولا تقصر» أما القصر: فبين وكذلك «لم أنس» حقيقة من قبل نفسي وغفلتي عن الصلاة ولكن الله نساني لأسن.
واعلم أنه قد ورد في الصحيح من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: «إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني».
وهذا يعترض ما ذكره القاضي من أنه صلى الله عليه وسلم أنكر نسبة النسيان إليه فإنه صلى الله عليه وسلم قد نسب النسيان إليه في حديث ابن مسعود مرتين وما ذكره القاضي عياض من أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يقال: نسيت كذا» الذي أعرفه فيه «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت آية» كذا وهذا نهي عن إضافة نسيت إلى الآية وليس يلزم من النهي عن إضافة النسيان إلى الآية: النهي عن إضافته إلى كل شيء فإن الآية من كلام الله تعالى المعظم يقبح بالمرء المسلم أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام الله تعالى وليس هذا المعنى موجودا في كل ما يناسب إليه النسيان فلا يلزم مساواة غير الآية لها.
وعلى كل تقدير: لو لم يظهر مناسبة لم يلزم من النهي عن الخاص النهي عن العام وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم أن يكون قول القائل نسيت- الذي أضافه إلى عدد الركعات- داخلا تحت النهي فينكر والله أعلم.
ولما تكلم بعض المتأخرين على هذا الوضع ذكر: أن التحقيق في الجواب عن ذلك: أن العصمة إنما تثبت في الإخبار عن الله في الأحكام وغيرها لأنه الذي قامت عليه المعجزة وأما إخباره عن الأمور الوجودية: فيجوز عليه النسيان هذا أو معناه.
وأما البحث المتعلق بأصول الفقه: فإن بعض من صنف في ذلك احتج به على جواز الترجيح بكثرة الرواة من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم طلب إخبار القوم بعد إخبار ذي اليدين وفي هذا بحث.
وأما البحث المتعلق بالفقه: فمن وجوه.
أحدها: أن نية الخرج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها.
الثاني: أن السلام سهوا لا يبطل الصلاة.
الثالث: استدل به بعضهم على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة وأبو حنيفة يخالف فيه.
الرابع: الكلام العمد لإصلاح الصلاة لا يبطل وجمهور الفقهاء على أنه يبطل.
وروى ابن القاسم عن مالك: أن الإمام لو تكلم بما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفسار والسؤال عند الشك وإجابة المأموم: أن صلاتهم تامة على مقتضى الحديث.
والذين منعوا من هذا اختلفوا في الاعتذار عن هذا الحديث والذي يذكر فيه وجوه.
منها: أنه منسوخ لجواز أن يكون في الزمن الذي كان يجوز فيه الكلام في الصلاة وهذا لا يصح لأن هذا الحديث رواه أبو هريرة وذكر أنه شاهد القصة وإسلامه عام خيبر وتحريم الكلام في الصلاة كان قبل ذلك بسنين- ولا ينسخ المتأخر بالمتقدم.
ومنها: التأويل لكلام الصحابة بأن المراد بجوابهم: جوابهم بالإشارة والإيماء لا بالنطق وفيه بعد لأنه خلاف الظاهر من حكاية الراوي لقولهم وإن كان قد ورد من حديث حماد بن زيد: «فأومؤا إليه» فيمكن الجمع بأن يكون بعضهم فعل ذلك إيماء وبعضهم كلاما أو اجتمع الأمران في حق بعضهم.
ومنها: أن كلامهم إجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته واجبة واعترض عليه بعض المالكية بأن قال: إن الإجابة لا تتعين بالقول فيكفي فيها الإيماء وعلى تقدير أيجب القوم لا يلزم منه الحكم بصحة الصلاة لجواز أن تجب الإجابة ويلزمهم الاستئناف.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم معتقدا لتمام الصلاة والصحابة تكلموا مجاوزين للنسخ فلم يكن كلام واحد منهم مبطلا وهذا يضعفه ما في كتاب مسلم: أن ذا اليدين قال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن», فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «أصدق ذو اليدين؟», فقالوا: نعم, يا رسول الله بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن» وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن» يدل على عدم النسخ فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ.
ولينتنبه هاهنا لنكتة لطيفة في قول ذي اليدين: (قد كان بعض ذلك) بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن» فإنه قوله: «كل ذلك لم يكن» تضمن أمرين:
أحدهما: الإخبار عن حكم شرعي وهو عدم القصر.
والثاني: الإخبار عن أمر وجودي وهو النسيان وأحد هذين الأمرين لا يجوز فيه النسخ وهو الإخبار عن الأمر الشرعي والآخر متحقق عند ذي اليدين فلزم أن يكون الواقع بعض ذلك كما ذكرنا.
الخامس: الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة إذا وقعت سهوا فإما أن تكون قليلة أو كثيرة فإن كانت قليلة: لم تبطل الصلاة وإن كانت كثيرة ففيها خلاف في مذهب الشافعي واستدل لعدم البطلان بهذا الحديث فإن الواقع فيه أفعال كثيرة ألا ترى إلى قوله: «خرج سرعان الناس» وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم: «خرج إلى منزله ومشى» قال في كتاب مسلم: «ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه» ثم قد حصل البناء بعد ذلك فدل على عدم بطلان الصلاة بالأفعال الكثيرة سهوا.
السادس: فيه دليل جواز البناء على الصلاة بعد السلام سهوا والجمهور عليه.
وذهب سحنون- من المالكية- إلى أن ذلك إنما يكون إذا سلم من ركعتين على ما ورد في الحديث ولعله رأى أن البناء بعد قطع الصلاة ونية الخروج منه على خلاف القياس وإنما ورد النص على خلاف القياس في هذه الصورة المعينة وهو السلام من اثنتين فيقصر على ما ورد النص: (ويبقى فيما عداه على القياس).
والجواب عنه: أنه إذا كان الفرع مساويا للأصل ألحق به وإن خالف القياس عند بعض أهل الأصول: وقد علمنا أن المانع لصحة الصلاة إنما كان هو الخروج منها بالنية والسلام وهذا المعنى قد ألغي عند ظن التمام بالنص ولا فرق بالنسبة إلى هذا المعنى بين كونه بعد ركعتين أو كونه بعد ثلاثة أو بعد واحدة.
===========
السابع: إذا قلنا بجواز البناء فقد خصصوه بالقرب في الزمن وأبى ذلك بعض المتقدمين فقال بجواز البناء وإن طال ما لم ينتقض وضوءه روي ذلك عن ربيعة: وقيل: إن نحوه عن مالك وليس ذلك بمشهور عنه واستدل لهذا المذهب بهذا الحديث ورأوا أن هذا الزمن طويل لاسيما على رواية من روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى منزله.
الثامن: إذا قلنا: إنه لا يبني إلا في القرب فقد اختلفوا في حده على أقوال منهم: من اعتبره بمقدار فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فما زاد عليه من الزمن فهو طويل وما كان بمقداره أو دونه فقريب ولم يذكروا على هذا القول الخروج إلى المنزل ومنهم من اعتبر في القرب العرف ومنهم من اعتبر مقدار ركعة ومنهم من اعتبر مقدار الصلاة وهذه الوجوه كلها في مذهب الشافعي وأصحابه.
التاسع: فيه دليل على مشروعية سجود السهو العاشر: فيه دليل على أنه سجدتان.
الحادي عشر: فيه دليل على أنه في آخر الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا كذل وقيل: في حمته: إنه أخر لاحتمال وجود سهو آخر فيكون جابرا للكل وفرع الفقهاء على هذا: أنه لو سجد ثم تبين أنه لم يكن آخر الصلاة لزمه إعادته في آخرها وصوروا ذلك في صورتين:
إحداهما: أن يسجد للسهو في الجمعة ثم يخرج الوقت وهو في السجود الأخير فيلزمه إتمام الظهر ويعيد السجود.
والثانية: أن يكون مسافرا فيسجد للسهو وتصل به السفينة إلى الوطن أو ينوي الإقامة فيتم ويعيد السجود.
الثاني عشر: فيه دليل على أن سجود السهو يتداخل ولا يتعد بتعدد أسبابه فإن النبي صلى الله عليه وسلم: سلم وتكلم ومشى وهذه موجبات متعددة واكتفى فيها بسجدتين وهذا مذهب الجمهور من الفقهاء.
ومنهم من قال: يتعدد السجود بتعدد السهو على ما نقله بعضهم ومنهم من فرق بين أن يتحد الجنس أو يتعدد وهذا الحديث دليل على خلاف هذا المذهب فإنه قد تعدد الجنس في القول والفعل ولم يتعدد السجود.
الثالث عشر: الحديث يدل على السجود بعد السلام في هذا السهو واختلف الفقهاء في محل السجود فقيل: كله قبل السلام وهو مذهب الشافعي وقيل: كله بعد السلام وهو مذهب أبي حنيفة وقيل: ما كان من نقص فمحله قبل السلام وما كان من زيادة فمحله بعد السلام وهو مذهب مالك وأومأ إليه الشافعي في القديم.
وقد ثبت في الأحاديث السجود بعد السلام في الزيادة وقبله في النقص واختلف الفقهاء فذهب مالك إلى الجمع بأن استعمل كل حديث قبل السلام في النقص وبعده في الزيادة والذين قالوا: بأن الكل قبل السلام اعتذروا عن الأحاديث التي جاءت بعد السلام بوجوه.
أحدها: دعوى النسخ لوجهين:
أحدهما: أن الزهري قال إن آخر الأمرين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: السجود قبل السلام.
الثاني أن الذين رأوا السجود قبل السلام: متأخروا الإسلام وأصاغر الصحابة.
والاعتراض على الأول: أن رواية الزهري مرسلة ولو كانت مسندة فشرط النسخ: التعارض باتحاد المحل ولم يقع ذلك مصرحا به في رواية الزهري فيحتمل أن يكون الأخير: هو السجود قبل السلام لكن في محل النقص وإنما يقع التعارض المحوج إلى النسخ لو تبين أن المحل واحد ولم يتبين ذلك.
والاعتراض على الثاني: أن تقدم الإسلام والكبر لا يلزم منه تقدم الرواية حالة التحمل.
الوجه الثاني في الاعتذار عن الأحاديث التي جاءت بالسجود بعد السلام: التأويل: إما على أن يكون المراد بالسلام: هو السلام الذي على النبي صلى الله عليه وسلم الذي في التشهد وإما أن يكون على تأخره بعد السلام على سبيل السهو وهما بعيدان.
أما الأول: فلأن السابق إلى الفهم عند إطلاق السلام في سياق ذكر الصلاة هو الذي به التحلل.
وأما الثاني: فلأن الأصل عدم السهو وتطرقه إلى الأفعال الشرعية من غير دليل غير سائغ وأيضا فإنه مقابل بعكسه وهو أن يقول الحنفي: محله بعد السلام وتقدمه قبل السلام على سبيل السهو.
الوجه الثالث في الاعتذار: الترجيح بكثرة الرواة وهذا- إن صح- فالاعتراض عليه: أن طريقة الجمع أولى من طريقة الترجيح فإنه يصار إليه عند عدم إمكان الجمع وأيضا فلابد من النظر إلى محل التعارض واتحاد موضع الخلاف من الزيادة والنقصان.
والقائلون بأن محل السجود بعد السلام اعتذروا عن الأحاديث المخالفة لذلك بالتأويل: إما على أن يكون المراد بقوله قبل السلام السلام الثاني أو يكون المراد بقوله: «وسجد سجدتين» سجود الصلاة.
وما ذكره الأولون من احتمال السهو: عائد هاهنا والكل ضعيف.
والأول: يبطله: أن سجود السهو لا يكون إلا بعد التسليمتين اتفاقا.
وذهب أحمد بن حنبل إلى الجمع بين الأحاديث بطريق أخرى غير ما ذهب إلي مالك وهو أن يستعمل كل حديث فيما ورد فيه وما لم يرد فيه حديث فمحل السجود فيه قبل السلام وكأن هذا نظر إلى أن الأصل في الجابر: أن يقع في المجبور فلا يخرج عن هذا الأصل إلا في مورد النص ويبقى فيما عداه على الأصل وهذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع وعدم سلوك طريق الترجيح لكنهما اختلفا في وجه الجمع ويترجح قول مالك بأن تذكر المناسبة في كون سجود السهو قبل السلام عند النقص وبعده عند الزيادة وإذا ظهرت المناسبة- وكان الحكم على وفقها- كانت علة وإذا كانت علة: عم الحكم فلا يتخصص ذلك بمورد النص.
الوجه الرابع عشر: إذا سها الإمام: تعلق حكم سهوه بالمأمومين وسجدوا معه وإن لم يسهوا واستدل عليه بهذا الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم سها وسجد القوم معه لما سجد وهذا إنما يتم في حق من لم يتكلم من الصحابة ولم يمش ولم يسم إن كان ذلك.
الوجه الخامس عشر: فيه دليل على التكبير لسجود السهو كما في سجود الصلاة.
الوجه السادس عشر: القائل فنبئت أن عمران بن الحصين قال: ثم سلم هو محمد بن سيرين الراوي عن أبي هريرة وكان الصواب للمصنف: أن يذكره فإنه لما لم يذكر إلا أبا هريرة اقتضى ذلك أن يكون هو القائل فنبئت وليس كذلك وهذا يدل على السلام من سجود السهو.
الوجه السابع عشر: لم يذكر التشهد بعد سجود السهو وفيه خلاف عند أصحاب مالك في السجود الذي بعد السلام وقد يستدل بتركه في الحديث على عدمه في الحكم كما فعلوا في مثله كثيرا من حيث إنه لو كان لذكر ظاهرا.
2- عن عبد الله بن بحينة- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه: كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم».
الكلام عليه من وجوه:
الأول: فيه دليل على السجود قبل السلام عند النقص فإنه نقص من هذه الصلاة: الجلوس الأوسط وتشهده.
الثاني: فيه دليل على أن هذا الجلوس غير واجب- أعني الأول- من حيث إنه جبر بالسجود ولا يجبر الواجب إلا بتداركه وفعله وكذلك فيه دليل على عدم وجوب التشهد الأول.
الثالث: فيه دليل على عدم تكرار السجود عند تكرار السهو لأنه قد ترك الجلوس الأول والتشهد معا واكتفى لهما بسجدتين هذا إذا ثبت أن ترك التشهد الأول بمفرده موجب.
الرابع: فيه دليل على متابعة الإمام عند القيام عن هذا الجلوس وهذا لا إشكال فيه على قول من يقول: إن الجلوس الأول سنة فإن ترك السنة للإتيان بالواجب ومتابعة الإمام واجبة.
الخامس: إن استدل به على أن ترك التشهد الأول بمفرده موجب لسجود السهو فيه ففيه نظر من حيث إن المتيقن السجود عند هذا القيام عن الجلوس وجاء من ضرورة ذلك: ترك التشهد فيه فلا يتيقن أن الحكم يترتب على ترك التشهد الأول فقط لاحتمال أن يكون مرتبا على ترك الجلوس وجاء هذا من الضرورة الوجودية.
باب المرور بين يدي المصلي:
1- عن أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه» قال أبو النضر: لا أدري: قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة؟ أبو جهيم عبد الله بن الحرث بن جهيم الأنصاي سماه ابن عيينة في روايته والثوري.
فيه دليل على منع المرور بين يدي المصلي إذا كان دون سترة أو كانت له سترة فمر بينه وبينها وقد صرح في الحديث بالإثم.
وبعض الفقهاء قسم ذلك على أربع صور.
الأول: أن يكون للمار مندوحة عن المرور بين يدي المصلي ولم يتعرض المصلي لذلك فيخص المار بالإثم إن مر.
الصورة الثانية: مقابلتها: وهو أن يكون المصلي تعرض للمرور والمار ليس له مندوحة عن المرور فيختص المصلي بالإثم دون المار.
الصورة الثالثة: أن يتعرض المصلي للمرور ويكون للمار مندوحة فيأثمان أما المصلي: فتعرضه وأما المار: فلمروره مع إمكان أن لا يفعل.
الصورة الرابعة: أن لا يتعرض المصلي ولا يكون للمار مندوحة فلا يأثم واحد منهما.
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان».
أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان خدري وقد تقدم الكلام فيه.
والحديث يتعرض لمنع المار بين يد المصلي وبين سترته وهو ظاهر.
وفيه دليل على جواز العمل القليل في الصلاة لمصلحتها.
ولفظة المقاتلة محمولة على قوة المنع من غير أن تنتهي إلى الأعمال المنافية للصلاة وأطلق بعض المصنفين من أصحاب الشافعي القول بالقتال وقال فليقاتله على لفظ الحديث ونقل القاضي عياض: الاتفاق على أنه لا يجوز المشي من مقامه إلى رده والعمل الكثير في مدافعته لأن ذلك في صلاته أشد من مروره عليه.
وقد يستدل بالحديث على أنه إذا لم يكن سترة لم يثبت هذا الحكم من حيث المفهوم وبعض المصنفين من أصحاب الشافعي نص على أنه إذا لم يستقبل شيئا أو تباعد عن السترة.
فإن أراد أن يمر وراء موضع السجود: لم يكره وإن أراد أن يمر في موضوع السجود: كره ولكن ليس للمصلي أن يقاتله وعلل ذلك بتقصيره حيث لم يقرب من السترة أو ما هذا معناه.
ولو أخذ من قوله: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره» جواز التستر بالأشياء عموما: لكان فيه ضعف لأن مقتضى العموم جواز المقاتلة عند وجود كل شيء ساتر لا جواز الستر بكل شيء إلا أن يحمل الستر على الأمر الحسي لا الأمر الشرعي وبعض الفقهاء كره التستر بآدمي أو حيوان غيره لأنه يصير في صورة المصلي إليه وكرهه مالك في المرأة.
وفي الحديث دليل على جواز إطلاق لفظ الشيطان في مثل هذا والله أعلم.
3- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار مررت بين يدي بعض الصف فنزلت فأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد.
قوله حمار أتان فيه استعمال لفظ الحمار في الذكر والأنثى كلفظ الشاة وكلفظ الإنسان وفي رواية مسلم على أتان ولم يذكر لفظ حمار.
وقوله ناهزت الاحتلام أي قاربته وهو يؤنس لقول من قال: إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة خلافا لمن قال غير ذلك مما لا يقارب البلوغ ولغل قوله قد ناهزت الاحتلام هاهنا تأكيدا لهذا الحكم وهو عدم بطلان الصلاة بمرور الحمار لأنه استدل على ذلك بعدم الإنكار وعدم الإنكار على من هو في مثل هذا السن أدل على هذا الحكم لأنه لو كان في سن الصغر وعدم التمييز- مثلا- لاحتمل أن يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته بسبب صغر سنه وعدم تمييزه وقد استدل ابن عباس بعدم الإنكار عليه ولم يستدل بعدم استئنافهم للصلاة لأنه أكثر فائدة فإنه إذا دل عدم إنكارهم على أن هذا الفعل غير ممنوع من فاعله دل ذلك على عدم إفساد الصلاة إذ لو أفسدها لامتنع إفساد صلاة الناس على المار ولا ينعكس هذا وهو أن يقال: ولو لم يفسد لم يمتنع على المار لجواز أن لا تفسد الصلاة ويمتنع المرور كما تقول في مرور الرجل بين يدي المصلي حيث يكون له مندوحة: إنه ممتنع عليه المرور وإن لم يفسد الصلاة على المصلي فثبت بهذا أن عدم الإنكار دليل على الجواز والجواز دليل على عدم الإفساد وأنه لا ينعكس فكان الاستدلال بعدم الإنكار أكثر فائدة من الاستدلال بعدم استئنافهم الصلاة.
================
ويستدل بالحديث على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يفسد الصلاة وقد قال في الحديث: «بغير جدار» ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة فإن لم يكن ثمة سترة غير الجدار فالاستدلال ظاهر وإن كان: وقف الاستدلال على أحد أمرين: إما أن يكون هذا المرور وقع دون السترة- أعني بين السترة والإمام- وإما أن يكون الاستدلال وقع بالمرور بين يدي المأمومين أو بعضهم لكن قد قالوا: إن سترة الإمام سترة لمن خلفه فلا يتم الاستدلال إلا بتحقيق إحدى المقدمات التي منها: أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه إن لم يكن مجمعا عليها.
وعلى الجملة: فالأكثر ون من الفقهاء على أنه لا تفسد الصلاة بمرور شيء بين يدي المصلي ووردت أحاديث معارضة لذلك.
فمنها: ما دل على انقطاع الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار.
منها: ما دل على انقطاعها بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار وهذان صحيحان.
ومنها ما دل على انقطاعها بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار واليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير وهذا ضعيف فذهب أحمد بن حنبل إلى إن مرور الكلب الأسود يقطعها ولم نجد لذلك معارضا قال: وفي قلبي من المرأة والحمار شيء.
وإنما ذهب إلى هذا- والله أعلم- لأنه ترك الحديث الضعيف بمرة ونظر إلى الصحيح فحمل مطلق الكلب في بعض الروايات على تقييده بالأسود في بعضها ولم يجد لذلك معارضا فقال به ونظر إلى المرأة والحمار فوجد حديث عائشة- الآتي- يعارض أمر المرأة وحديث ابن عباس- هذا- يعارض أمر الحمار فتوقف في ذلك وهذه العبارة- التي حكيناها عنه- أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار وإنما كان كذلك: لأن جزم القول به يتوقف على أمرين:
أحدهما: أن يتبين تأخر المقتضي لعدم الفساد على المقتضي للفساد وفي ذلك عسر عند المبالغة في التحقيق.
والثاني: أن يتبين أن مرور المرأة مساو لما حكته عائشة رضي الله عنها من الصلاة إليها وهي راقد وليست هذه المقدمة بالبينة عندنا لوجهين:
أحدهما: أنها رضي الله عنها ذكرت أن البيوت يومئذ ليس فيها مصابيح فلعل سبب هذا الحكم: عدم المشاهدة لها.
والثاني: أن قائلا لو قال: إن مرور المرأة ومشيها لا يساويه فيه التشويش على المصلي اعتراضها بين يديه فلا يساويه في الحكم: لم يكن ذلك بالممتنع وليس يبعد من تصرف الظاهرية مثل هذا.
وقوله: (فأرسلت الأتان ترتع) أي ترعى.
وفي الحديث دليل على أن عدم الإنكار حجة على الجواز وذلك مشروط بأن تنتفي الموانع من الإنكار ويعلم الاطلاع على الفعل وهذا ظاهر ولعل السبب في قول ابن عباس ولم ينكر علي أحد ولم يقل: ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم علي ذلك: أنه ذكر أن هذا الفعل كان بين يدي بعض الصف وليس يلزم من ذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لجواز أن يكون الصف ممتدا فلا يطلع عليه لفقد شرط الاستدلال بعدم الإنكار على الجواز وهو الاطلاع مع عدم المانع أما عدم الإنكار ممن رأى هذا الفعل: فهو متيقن فترك المشكوك فيه وهو الاستدلال بعدم الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المتيقن وهو الاستدلال بعدم إنكار الرائين للواقعة وإن كان يحتمل أن يقال: إن قوله ولم ينكر ذلك علي أحد يشمل النبي صلى الله عليه وسل وغيره لعموم لفظة أحد إلا أن فيه ضعفا لأنه لا معنى للاستدلال بعدم إنكار غير الرسول صلى الله عليه وسلم بحضرته وعدم إنكاره إلا على بعد.
4- عن عائشة رضي الله عنها قال: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم- ورجلاي في قبلته- فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح».
وحديث عائشة- هذا- استدل به على ما قدمناه من عدم إفساد مرور المرأة صلاة المصلي وقد مر ما فيه وما يعارضه.
وفيه دليل على جواز الصلاة إلى النائم وإن كان قد كرهه بعضهم وورد فيه حديث.
وفيه دليل على أن اللمس- إما بغير لذة أو من وراء حائل- لا ينقض الطهارة أعني إنه يدل على أحد الحكمين ولا بأس بالاستدلال به على أن اللمس من غير لذة لا ينقض من حيث إنها ذكرت أن البيوت ليس فيها مصابيح وربما لا زال الساتر فيكون وضع اليد- مع عدم العلم بوجود الحائل- تعريضا للصلاة بالبطلان ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليعرضها لذلك.
وفيه دليل على أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة.
وقولها: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) إما لتأكيد الاستدلال على حكم من الأحكام الشرعية كما أشرنا إليه وإما لإقامة العذر لنفسها حيث أحوجته إلى أن يغمز رجلها إذ لو كان ثمة مصابيح لعلمت بوقت سجوده بالرؤية فلم تكن لتحوجه إلى الغمز وقد قدمنا كراهية أن تكون المرأة سترة للمصلي عند مالك وكراهة أن تكون السترة آدميا أو حيوانا عند بعض مصنفي الشافعية مع تجويزه للصلاة إلى المضطجع والله أعلم.


http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب جامع:
1- عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: في حكم الركعتين عند دخول المسجد وجمهور العلماء على عدم الوجوب لهما.
ثم اختلفوا فظاهر مذهب مالك: أنهما من النوافل وقيل: إنهما من السنن وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين النوافل والسنن والفضائل ونقل عن بعض الناس: أنهما واجبتان تمسكا بالنهي عن الجلوس قبل الركوع وعلى الرواية الأخرى- التي وردت بصيغة الأمر- يكون التمسك بصيغة الأمر ولا شك أن ظاهر الأمر: الوجوب وظاهر النهي التحريم ومن أزالهما عن الظاهر فهو محتاج إلى الدليل ولعلهم يفعلون في هذا ما فعلوا في مسألة الوتر حيث استدلوا على عدم الوجوب فيه بقوله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد» وقول السائل: هل علي غيرهن؟ قال: «لا, إلا أن تطوع» فحملوا لذلك صيغة الأمر على الندب لدلالة هذا الحديث على عدم وجوب غير الخمس إلا أن هذا يشكل عليهم بإيجابهم الصلاة على الميت تمسكا بصيغة الأمر.
الوجه الثاني: إذا دخل المسجد في الأوقات المكروهة فهل يركع أم لا؟ اختلفوا فيه فمذهب مالك: أنه لا يركع والمعروف في مذهب الشافعي وأصحابه أنه يركع لأنها صلاة لها سبب ولا يكره في هذه الأوقات من النوافل إلا ما لا سبب له وحكى وجه آخر: أنه يكره.
وطريقة أخرى: أن محل الخلاف إذا قصد الدخول في هذه الأوقات لأجل أن يصلي فيها أما غير هذا الوجه: فلا وأما ما حكاه القاضي عياض عن الشافعي في جواز صلاتها بعد العصر ما لم تصفر الشمس وبعد الصبح ما لم يسفر إذا هي عنده من النوافل التي لها سبب وإنما يمنع في هذه الأوقات ما لا سبب له ويقصد ابتداء لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها» انتهى كلامه هذا لا نعرفه من نقل أصحاب الشافعي على هذه الصورة واقرب الأشياء إليه: ما حكيناه من هذه الطريقة إلا أنه ليس هو إياه بعينه.
وهذا الخلف في هذه المسألة ينبني على مسألة أصولية مشكلة وهو ما إذا تعارض نصان كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه خاص من وجه ولست أعني بالنصين هاهنا ما لا يحتمل التأويل وتحقيق ذلك أولا يتوقف على تصوير المسألة فنقول: مدلول أحد النصين: إن لم يتناول مدلول الآخر ولا شيئا منه فهما متباينان كلفظة المشركين والمؤمنين مثلا وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر فهما متساويان كلفظة الإنسان والبشر مثلا وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر ويتناول غيره فالمتناول له ولغيره عام من كل وجه بالنسبة إلى الآخر والآخر خاص من كل وجه وإن كان مدلولهما يجتمع في صورة وينفرد كل واحد منهما بصورة أو صور فكل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه.
فإذا تقرر هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد» الخ مع قوله: «لا صلاح بعد الصبح» من هذا القبيل فإنهما يجتمعان في صورة وهو ما إذا دخل المسجد بعد الصبح أو العصر وينفردان أيضا بأن توجد الصلاة في هذا الوقت من غير دخول المسجد ودخول المسجد في غير ذلك الوقت فإذا وقع مثل هذا فالإشكال قائم لأن أحد الخصمين لو قال: لا تكره الصلاة عند دخول المسجد في هذه الأوقات لأن هذا الحديث دل على جوازها عند دخول المسجد- وهو خاص بالنسبة إلى الحديث الأول المانع من الصلاة بعد الصبح- فأخص قوله: «لا صلاة بعد الصبح» بقوله: «إذا دخل أحدكم المسجد» فلخصمه أن يقول قوله: «إذا دخل أحدكم المسجد» عام بالنسبة إلى الأوقات فأخصه بقوله «لا صلاة بعد الصبح» فإن هذا الوقت أخص من العموم.
فالحاصل أن قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد» خاص بالنسبة إلى هذه الصلاة أعني الصلاة عند دخول المسجد عام بالنسبة إلى هذه الأوقات وقوله: «لا صلاة بعد الصبح» خاص بالنسبة إلى هذا الوقت عام بالنسبة إلى الصلوات فوقع الإشكال من ههنا.
وذهب بعض المحققين في هذا إلى الوقف حتى يأتي ترجيح خارج بقرينة أو غيرها فمن ادعى أحد هذين الحكمين- أعني الجواز أو المنع- فعليه إبداء أمر زائد على مجرد الحديث.
الوجه الثالث: إذا دخل المسجد بعد أن صلى ركعتي الفجر في بيته فهل يركعهما في المسجد؟ اختلف قول مالك فيه وظاهر الحديث: يقتضي الركوع وقيل: إن الخلاف في هذا من جهة معارضة هذا الحديث للحديث الذي رووه من قوله عليه السلام: «لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر» وهذا أضعف من المسألة السابقة لأنه يحتاج في هذا إلى إثبات صحة هذا الحديث حتى يقع التعارض فإن الحديثين الأولين في المسألة الأولى صحيحان وبعد التجاوز عن هذه المطالبة وتقدير تسليم صحته يعود الأمر إلى ما ذكرناه من تعارض أمرين يصير كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه وقد ذكرناه.
الوجه الرابع: إذا دخل مجتازا فهل يؤمر بالركوع؟ خفف من ذلك مالك.
وعندي: أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة فإنا إن نظرنا إلى صيغة النهي فالنهي يتناول جلوسا قبل الركوع فإذا لم يحصل الجلوس أصلا لم يفعل المنهي وإن نظرنا إلى صيغة الأمر فالأمر توجه بركوع قبل جلوس فإذا انتفيا معا لم يخالف الأمر.
الوجه الخامس: لفظة المسجد تتناول كل مسجد وقد أخرجوا عنه المسجد الحرام وجعلوا تحيته الطواف فإن كان في ذلك خلاف فلمخالفهم أن يستدل بهذا الحديث وإن لم يكن فالسبب في ذلك النظر إلى المعنى وهو أن المقصود: افتتاح الدخول في محل العبادة بعبادة وعبادة الطواف تحصل هذا المقصود مع أن غير هذا المسجد لا يشاركه فيها فاجتمع في ذلك تحصيل المقصود مع الاختصاص وأيضا فقد يؤخذ ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته حين دخل المسجد فابتدأ بالطواف على ما يقتضيه ظاهر الحديث واستمر عليه العمل وذلك أخص من هذا العموم وأيضا فإذا اتفق أن طاف ومشى على السنة في تعقيب الطواف بركعتيه وجرينا على ظاهر اللفظ في الحديث فقد وفينا بمقتضاه.
الوجه السادس: إذا صلى العيد في المسجد فهل يصلي التحية عند الدخول فيه؟ اختلف فيه والظاهر في لفظ هذا الحديث: أنه يصلي لكن جاء في الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها» أعني صلاة العيد والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في المسجد ولا نقل ذلك فلا معارضة بين الحديثين إلا أن يقول قائل ويفهم فاهم: أن ترك الصلاة قبل العيد وبعدها من سنة صلاة العيد من حيث هي هي وليس لكونها واقعة في الصحراء أثر في ذلك الحكم فحينئذ يقع التعارض غير أن ذلك يتوقف على أمر زائد وقرائن تشعر بذلك فإن لم يوجد فالاتباع أولى استحبابا أعني في ترك الركوع في الصحراء وفعله في المسجد للمسجد لا للعيد.
الوجه السابع: من كثر تردده إلى المسجد وتكرر: فهل يتكرر له الركوع مأمورا به؟ قال بعضهم: لا وقاسه على الحطابين والفكاهين المترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عنهم إذا تكرر ترددهم والحديث يقتضي تكرر الركوع بتكرر الدخول وقول القائل يتعلق بمسألة أصولية وهو تخصيص العموم بالقياس وللأصوليين في ذلك أقوال متعددة.
==========

 2- عن زيد بن أرقم قال: «كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام».
الكلام عليه من وجوه:
الأول: هذا اللفظ أحد ما يستدل به الناسخ والمنسوخ وهو ذكر الراوي لتقدم أحد الحكمين على الآخر وهذا لا شك فيه وليس كقوله: هذا منسوخ من غير بيان التاريخ فإن ذلك قد ذكروا فيه: أنه لا يكون دليلا لاحتمال أن يكون الحكم بالنسخ عن طريق اجتهادي منه.
الثاني: القنوت يستعمل في معنى الطاعة وفي معنى الإقرار بالعبودية والخضوع والدعاء وطول القيام والسكوت وفي كلام بعضهم ما يفهم منه: أنه موضوع للمشترك.
قال القاضي عياض: وقيل: أصله الدوام على الشيء فإذا كان هذا أصله فمديم الطاعة قانت وكذلك الداعي والقائم في الصلاة والمخلص فيها والساكت فيها كلهم فاعلون للقنوت وهذا إشارة إلى ما ذكرناه من استعماله في معنى مشترك وهذه طريقة طائفة من المتأخرين من أهل العصر وما قاربه يقصدون بها دفع الاشتراك اللفظي والمجاز عن موضوع اللفظ ولا بأس بها إن لم يقم دليل على أن اللفظ حقيقة في معنى معين أو معاني ويستعمل حيث لا دليل يقوم دليل على ذلك.
الثالث: لفظ الراوي يشعر بأن المراد بالقنوت في الآية: السكوت لما دل عليه لفظ حتى التي للغاية والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها.
وقد قيل: إن القنوت في الآية الطاعة وفي كلام بعضهم: ما يشعر بحمله على الدعاء المعروف حتى جعل ذلك دليلا على أن الصلاة الوسطى هي الصبح من حيث قرانها بالقنوت والأرجح في هذا كله: حمله على ما أشعر به كلام الراوي: فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون بسبب النزول والقرائن المحتلفة به: ما يرشدهم إلى تعيين المحتملات وبيان المجملات فهم في ذلك كله كالناقلين للفظ يدل على التعليل والتسبيب وقد قالوا: إن قول الصحابي في الآية نزلت في كذا يتنزل منزلة المسند.
الرابع: قوله: «فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» يقتضي أن كل ما يسمى كلاما فهو منهي عنه وما لا يسمى كلاما فدلالة الحديث قاصرة في النهي عنه.
وقد اختلف الفقهاء في أشياء: هل تبطل الصلاة أم لا؟ كالنفخ والتنحنح بغير علة وحاجة وكالبكاء والذي يقتضيه القياس: أن ما سمي كلاما فهو داخل تحت اللفظ وما لا يسمى كلاما والذي يقتضيه القياس: أن ما سمي كلاما فهو داخل تحت اللفظ وما لا يسمى كلاما فمن أراد إلحاقه به كان ذلك بطريق القياس فليراع شرطه في مساواة الفرع للأصل أو زيادته عليه واعتبر أصحاب الشافعي ظهور حرفين وإن لم يكونا مفهومين فإن أقل الكلام حرفان.
ولقائل أن يقول: ليس يلزم من كون الحرفين يتألف منهما الكلام: أن يكون كل حرفين كلاما وإذا لم يكن كلاما فالإبطال به لا يكون بالنص بل بالقياس على ما ذكرنا فليراع شرطه اللهم إلا أن يريد بالكلام كل مركب مفهما كان أو غير مفهم فحينئذ يندرج فيه تحت اللفظ إلا أن فيه بحثا.
والأقرب: أن ينظر إلى مواقع الإجماع والخلاف حيث لا يسمى الملفوظ به كلاما فما أجمل على إلحاقه بالكلام ألحقناه به وما لم يجمع عليه- مع كونه لا يسمى كلاما- فيقوي فيه عدم الإبطال ومن هذا استبعد القول بإلحاق النفخ بالكلام ومن ضعيف التعليل فيه: قول من علل البطلان به بأنه يشبه الكلام وهذا ركيك مع ثبوت السنة الصحيحة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاة الكسوف في سجوده» وهذا البحث كله: في الاستدلال بتحريم الكلام.
3- عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: الإبراد أن تؤخر الصلاة عن أول الوقت مقدار ما يظهر للحيطان ظل ولا يحتاج إلى المشي في الشمس هذا ما ذكره بعض مصنفي الشافعية وعند المالكية: يؤخر الظهر إلى أن يصير الفيء أكثر من ذراع.
الثاني: اختلف الفقهاء في الإبراد بالظهر في شدة الحر: هل هو سنة أو رخصة وعبر بعضهم بأن قال: هل الأفضل التقديم أو الإبراد؟ وبنوا على ذلك: إن من صلى في بيته أو مشى في كن إلى المسجد: هل يسن له الإبراد؟ فإن قلنا: إنه رخصة لم يسن إذ لا مشقة عليه في التعجيل وإن قلنا: إنه سنة أبرد والأقرب: انه سنة لورود الأمر به ما مع اقترن به من العلة وهو أن «شدة الحر من فيح جهنم», وذلك مناسب للتأخير والأحاديث الدالة على فضيلة التعجيل عامة أو مطلقة وهذا خاص ولا مبالاة- مع ذكرنا من صيغة الأمر ومناسبة العلة- بقول من قال: إن التعجيل أفضل لأنه أكثر مشقة فإن مراتب الثواب إنما يرجع فيها إلى النصوص وقد يترجح بعض العبادة الخفيفة على ما هو أشق منها بحسب المصالح المتعلقة بها.
الثالث: اختلف أصحاب الشافعي في الإبراد بالجمعة على وجهين وقد يؤخذ من الحديث الإبراد بها من وجهين:
أحدهما: لفظة الصلاة فإنها تطلق على الظهر والجمعة.
والثاني: التعليل فإنه مستمر فيها وقد وجه القول بأنه لا يبرد بها لأن التبكير سنة فيها وجواب هذا ما تقدم وبأنه قد يحصل التأذي بحر المسجد عند انتظار الإمام.
4- عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]».
ولمسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها: أن يصليها إذا ذكرها».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أنه يجب قضاء الصلاة إذا فاتت بالنوم أو النسيان وهو منطوقه ولا خلاف فيه.
الثاني: اللفظ يقتضي توجه الأمر بقضائها عند ذكرها لأنه جعل الذكر ظرفا للمأمور به فيتعلق الأمر بالفعل فيه.
وقد قسم الأمر فيه عند بعض الفقهاء بين ما ترك عمدا فيجب القضاء فيه على الفور وقطع به بعض مصنفي الشافعية وبين ما ترك بنوم أو نسيان فيستحب قضاؤه على الفور ولا يجب واستدل على عدم وجوبه على الفور في هذه الحالة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ- بعد فوات الصلاة بالنوم- أخر قضاءها واقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي وذلك دليل على جواز التأخير وهذا يتوقف على أن لا يكون ثم مانع من المبادرة.
وقد قيل: إن المانع أن الشمس كانت طالعة فأخر القضاء حتى ترتفع بناء على مذهب من يمنع القضاء في هذا الوقت ورد بذلك بأنها كانت صبح اليوم وأبو حنيفة يجيزها في هذا الوقت وبأنه جاء في الحديث: «فما أيقظهم إلا حر الشمس» وذلك يكون بالارتفاع.
وقد يعتقد مانع آخر وهو ما دل عليه الحديث من أن الوادي به شيطان وأخر ذلك للخروج عنه ولا شك أن هذا علة للتأخير والخروج كما دل عليه الحديث ولكن هل يكون ذلك مانعا على تقدير أن يكون الواجب المبادرة؟ في هذا نظر ولا يمتنع أن يكون مانعا على تقدير جواز التأخير.
الثالث: قد يستدل به من يقول بأن من ذكر صلاة منسية- وهو في الصلاة- أن يقطعها إذا كانت واجبة الترتيب مع التي شرع فيها ولم يقل بذلك المالكية مطلقا بل لهم في ذلك تفصيل مذهبي بين الفذ والإمام والمأموم وبين أن يكون الذكر بعد ركعة أولا فلا يستمر الاستدلال به مطلقا وحيث يقال بالقطع فوجه الدليل منه: أنه يقتضي الأمر بالقضاء عند الذكر ومن ضرورة ذلك: قطع ما هو فيه ومن أراد إخراج شيء من ذلك فعليه أن يبين مانعا من إعمال اللفظ في الصورة التي يخرجها ولا يخلو هذا التصرف من نوع جدل والله أعلم.
الرابع: قوله عليه السلام: «لا كفارة لها إلا ذلك» يحتلم أن يراد به: نفي الكفارة المالية كما وقع في أمور أخر فإنه لا يكتفي فيها إلا بالإتيان بها ويحتمل أن يراد به: أنه لا بدل لقضائها كما تقع الأبدال في بعض الكفارات ويحتمل أن يراد به: أنه لا يكفي فيها مجرد التوبة والاستغفار ولابد من الإتيان بها.
الخامس: وجوب القضاء على العامد بالترك من طريق الأولى فإنه إذا لم تقع المسامحة- مع قيام العذر بالنوم والنسيان- فلأن لا تقع مع عدم العذر أولى.
وحكى القاضي عياض عن بعض المشايخ: أن قضاء العامد مستفاد من قوله عليه السلام: «فليصلها إذا ذكرها» لأنه بغفلته عنها وعمده كالناسي ومتى ذكر تركه لها لزمه قضاؤها وهذا ضعيف لأن قوله عليه السلام: «فليصلها إذا ذكرها» كلام مبني على ما قبله وهو: «من نام عن صلاة أو نسيها» والضمير في قوله: «فليصلها إذا ذكرها» عائد إلى الصلاة المنسية أو التي يقع النوم عنها فكيف يحمل ذلك على ضد النوم والنسيان وهو الذكر واليقظة؟ نعم لو كان كلاما مبتدأ: مثل أن يقال: من ذكر صلاة فليصلها إذا ذكرها لكان ما قيل محتملا على تمحل مجاز.
أما قوله كالناسي إن أراد به: أنه مثله في الحكم فهو دعوى ولو صحت لكان ذلك مستفادا من اللفظ بل من القياس أو من مفهوم الخطاب الذي أشرنا إليه وكذلك ما ذكر في ذلك من الاستناد إلى قوله: «لا كفارة لها إذا ذلك» والكفارة إنما تكون من الذنب والنائم والناسي لا ذنب لهما وإنما الذنب للعامد- لا يصح أيضا لأن الكلام كله مسوق على قوله: «من نام عن صلاة أو نسيها» والضمائر عائدة إليها فلا يجوز أن يخرج عن الإرادة ولا أن يحمل اللفظ ما لا يحتمله.
وتأويل لفظ الكفار هنا أقرب وأيسر من أن يقال: إن الكلام الدال على الشيء مدلول به على ضده فإن ذلك ممتنع وليس ظهور لفظ الكفارة في الإشعار بالذنب بالظهور القوي الذي يصادم به النص الجلي في أن المراد: الصلاة المنسية أو التي وقع النوم عنها وقد وردت كفارة القتل خطأ مع عدم الذنب وكفارة اليمين بالله مع استحباب الحنث في بعض المواضع وجواز اليمين ابتداء ولا ذنب.
5- عن جابر بن عبد الله: أن معاذ بن جبل: كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة.
اختلف الفقهاء في جواز اختلاف نية الإمام والمأموم على مذاهب أوسعها: الجواز مطلقا فيجوز أن يقتدى المفترض بالمتنفل وعكسه والقاضي بالمؤدي وعكسه سواء اتفقت الصلاتان أم لا إلا أن تختلف الأفعال الظاهرة وهذا مذهب الشافعي.
الثاني: مقابله وهو أضيقها وهو أنه لا يجوز اختلاف النيات حتى لا يصلي المتنفل خلف المفترض.
والثالث: أوسطها: أنه يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض لا عكسه وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ومن نقل عن مذهب مالك مثل المذهب الثاني فليس بحيد فليعلم ذلك.
وحاصل ما يتعذر به عن هذا الحديث لمن منع ذلك من وجوه:
أحدها: أن الاحتجاج به من باب ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطه: علمه بالواقعة وجاز أن لا يكون علم بها وأنه لو علم لأنكر.
وأجيبوا على ذلك بأنه يبعد- أو يمتنع- في العادة: أن لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك من عادة معاذ واستدل بعضهم- أعني المانعين- برواية عمر بن يحيى المازني عن معاذ بن رفاعة الزرقي: أن رجلا من بني سلمة يقال له: سليم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نظل في أعمالنا فنأتي حين نمسي فنصلي فيأتي معاذ بن جبل فينادي بالصلاة فنأتيه فيطول عليها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ لا تكن أو لا تكونن- فتانا إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك» قال: فقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ يدل على أنه عند رسول الله كان يفعل أحد الأمرين إما الصلاة معه أو بقومه وأنه لم يكن يجمعهما لأنه قال: «إما أن تصلي معي» أي ولا تصل بقومك: «وإما أن تخفف بقومك» أي ولا تصل معي.
الوجه الثاني: في الاعتذار: أن النية أمر باطن لا يطلع عليه إلا بالإخبار من الناوي فجاز أن تكون نيته مع النبي صلى الله عليه وسلم الفرض وجاز أن تكون النفل ولم يرد عن معاذ ما يدل على أحدهما وإنما يعرف ذلك بإخباره.
وأجيب عن هذا بوجوه:
أحدها: أنه قد جاء في الحديث رواية ذكرها الدارقطني فيها: «فهي لهم فريضة وله تطوع».
الثاني: أنه لا يظن بمعاذ أنه يترك فضيلة فرضه خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي بها مع قومه.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» فكيف يظن بمعاذ- بعد سماع هذا- أن يصلي النافلة مع قيام المكتوبة؟.
واعترض بعض المالكية على الوجه الأول بوجهين:
أحدهما: لا يساوي أن يذكر لشدة ضعفه.
والثاني: أن هذا الكلام- أعني قوله: «فهي لهم فريضة وله تطوع»- ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يكون من كلام الراوي بناء على ظن أو اجتهاد ولا يجزم به وذكر معنى هذا أيضا بعض الحنفية ممن له شرب في الحديث وقال ما حاصله: إن ابن عيينة روى هذا الحديث أيضا ولم يذكر هذه اللفظة والذي ذكرها هو ابن جريج فيحتمل أن تكون من قوله أو قول من روى عنه أو قول جابر.

==========================


وأما الجواب الثاني: ففيه نوع ترجيح ولعل خصومهم يقولون فيه: إن هذا إنما يكون عند اعتقاده الجواز لذلك فلم قلتم بأنه كان يعتقده؟.
وأما الجواب الثاني: فيمكن أن يقال فيه: إن المفهوم أن لا يصلي نافلة غير الصلاة التي تقام لأن المحذور: وقوع الخلاف على الأئمة وهذا المحذور منتف مع الاتفاق في الصلاة المقامة ويؤيد هذا: الاتفاق من الجمهور على جواز صلاة المتنفل خلف المفترض ولوتناوله النهي المستفاد من النفي: لما جاز جوازا مطلقا.
الوجه الثالث: من الاعتذار: ادعاء النسخ وذلك لوجهين:
أحدهما: أنه يحتمل أن يكون ذلك حين كانت الفرائض تقام في اليوم مرتين حتى نهي عنه وهذا الوجه منقول المعنى عن الطحاوي وعليه اعتراض من وجهين أحدهما: طلب الدليل على كون ذلك كان واقعا- أعني صلاة الفريضة في اليوم مرتين- فلابد من نقل فيه والثاني: أنه إثبات للنسخ بالاحتمال.
الوجه الثاني: مما يدل على النسخ ما أشار إليه بعضهم دون تقرير حسن له ووجه تقريره: أن إسلام معاذ متقدم وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعده سنتين من الهجرة صلاة الخوف غير مرة على وجه وقع فيه مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية للصلاة في غير حالة الخوف.
فيقال: لو جاز صلاة المفترض خلف المتنفل لأمكن إيقاع الصلاة مرتين على وجه لا يقع فيه المنافاة والمفسدات في غير هذه الحالة وحيث صليت على هذا الوجه مع إمكان دفع المفسدات- على تقدير جواز صلاة المفترض خلف المتنفل- دل على أنه لا يجوز ذلك وبعد ثبوت هذه الملازمة: يبقى النظر في التاريخ وقد أشير بتقدم إسلام معاذ إلى ذلك وفيه ما تقدمت الإشارة إليه.
الوجه الرابع: من الاعتذار عن الحديث: ما أشار إليه بعضهم من أن الضرورة دعت إلى ذلك لقلة القراء في ذلك الوقت ولم يكن لهم غنى عن معاذ ولم يكن لمعاذ غنى عن صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يحتمل أن يريد به قائله معنى النسخ فيكون كما تقدم ويحتمل أن يريد: أنه مما أبيح بحالة مخصوصة فيرتفع الحكم بزوالها ولا يكون نسخا وعلى كل حال: فهو ضعيف لعدم قيام الدليل على تعيين ما ذكره هذا القائل علة لهذا الفعل ولأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة ليس حفظته بقليل وما زاد على الحاجة من زيادة القراءة: فلا يصلح أن يكون سببا لارتكاب ممنوع شرعا كما يقوله هذا المانع.
فهذا مجامع ما حضر من كلام الفريقين مع تقرير لبعضه فيما يتعلق بهذا الحديث وما زاد على ذلك من الكلام على أحاديث آخر والنظر في الأقيسة: فليس من شرط هذا الكتاب.
6- عن أنس بن مالك قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه).
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أنه يقتضي تقديم الظهر في أول الوقت مع الحر ويعارضه ما قدمناه في أمر الإبراد على ما قيل فمن قال: إن الإبراد رخصة فلا إشكال عليه لأن التقديم حينئذ يكون سنة والإبراد جائز ومن قال: إن الإبراد سنة فقد ردد بعضهم القول في أن يكون منسوخا أعني:
التقديم في شدة الحر أو يكون على الرخصة ويحتمل عندي أن لا يكون ثمة تعارض لأنا إن جعلنا الإبراد إلى حيث يبقى ظل يمشى فيه إلى المسجد أو إلى ما زاد على الذراع فلا يبعد أن يبقى مع ذلك يحتاج معه إلى بسط الثوب فلا تعارض.
الثاني: فيه دليل على جواز استعمال الثياب وغيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتقائه بذلك حر الأرض وبردها.
الثالث: فيه دليل على أن مباشرة ما باشر الأرض بالجبهة واليدين هو الأصل فإنه قد علق بسط الثوب بعدم الاستطاعة وذلك يفهم منه أن الأصل والمعتاد عدم بسطه.
الرابع: استدل به بعض من أجاز السجود على الثوب المتصل بالمصلي وهو يحتاج إلى أمرين: أحدهما: أن تكون لفظة ثوبه دالة على المتصل به إما من حيث اللفظ أو من أمر خارج عنه: ونعني بالأمر الخارج: قلة الثياب عندهم ومما يدل عليه من جهة اللفظ قوله: (بسط ثوبه فصلى عليه) يدل على أن البسط معقب بالسجود لدلالة الفاء على ذلك ظاهرا.
والثاني: أن يدل دليل على تناوله لمحل النزاع إذ من منع السجود على الثوب المتصل به: يشترط في المنع أن يكون متحركا بحركة المصلي وهذا الأمر الثاني سهل الإثبات لأن طول ثيابهم إلى حيث لا تتحرك بالحركة البعيد.
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء».
هذا النهي معلل بأمرين:
أحدهما: أن في ذلك تعري أعالي البدن ومخالفة الزينة المسنونة في الصلاة.
والثاني: أن الذي يفعل ذلك إما أن يشغل يده بإمساك الثوب أولا فإن لم يشغل خيف سقوط الثوب وانكشاف العورة وإن شغل كان فيه مفسدتان إحداهما: أنه يمنعه من الإقبال على صلاته والاشتغال بها الثانية: أنه إذا اشتغل يده في الركوع والسجود لا يؤمن من سقوط الثوب وانكشاف العورة.
ونقل عن بعض العلماء القول بظاهر هذا الحديث ومنع الصلاة في السراويل والإزار وحده لأنها صلاة في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء وهذا مخصوص بغير حالة الضرورة والأشهر عند الفقهاء: خلاف هذا المذهب وجواز الصلاة بما يستر العورة وعارضوا هذا بقوله صلى الله عليه وسلم لجابر في الثوب: «وإن كان ضيقا فاتزر به» ويحمل هذا النهي على الكراهة والله أعلم.
8- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته», وأتي بقدر فيه خضروات من بقول فوجد لها ريحا فسأل؟ فأخبر بما فيها من البقول فقال: «قربوها إلى بعض أصحابي» فلما رآه كره أكلها قال: «كل فإني أناجي من لا تناجي».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: هذا الحديث صريح في التخلف عن الجماعة في المساجد بسببب هذه الأمور.
واللازم عن ذلك أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحا وصلاة الجماعة غير واجبة على الأعيان أو تكون الجماعة واجبة على الأعيان ويمتنع أكل هذه الأشياء إذا آذت إن حملنا النهي على القربان على التحريم وجمهور الأمة: على إباحة أكلها لقوله عليه السلام: «ليس لي تحريم ما أحل الله ولكني أكرهه» ولأنه علل بشيء يختص به وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «فإني أناجي من لا تناجي» ويلزم من هذا: أن لا تكون الجماعة في المسجد واجبة على الأعيان.
وتقريره: أن يقال: أكل هذه الأمور جائز بما ذكرناه ومن لوازمه: ترك صلاة الجماعة في حق آكلها للحديث ولازم الجائز جائز فترك الجماعة في حق آكلها جائز وذلك ينافي الوجوب عليه.
ونقل عن أهل الظاهر- أبو بعضهم- تحريم أكل الثوم بناء على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان وتقرير هذا أن يقال: صلاة الجماعة واجبة على الأعيان ولا تتم إلا بترك آكل الثوم لهذا الحديث وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فترك أكل الثوم واجب.
الثاني: قوله: «مسجدنا» تعلق به بعضهم في أن هذا النهي مخصوص بمسجد الرسول وربما يتأكد ذلك بأنه كان مهبط الملك بالوحي والصحيح المشهور خلاف ذلك وأنه عام لما جاء في بعض الروايات مساجدنا ويكون مسجدنا للجنس أو لضرب المثال فإن هذا النهي معلل: إما بتأذي الآدميين أو بتأذي الملائكة الحاضرين وذلك يوجد في المساجد كلها.
الثالث: قوله: (وأتي بقدر فيه خضروات) قيل: إن لفظة القدر تصحيف وأن الصواب ببدر بالباء والبدر الطبق وقد ورد ذلك مفسرا في موضع آخر ومما استبعد به لفظة القدر أنها تشعر بالطبخ وقد ورد الإذن بأكلها مطبوخة وأما البدر الذي هو الطبق: فلا يشعر كونها فيه بالطبخ فجاز أن تكون نيئة فلا يعارض ذلك الإذن في أكلها مطبوخة بل ربما يدعى أن ظاهر كونها في الطبق: أن تكون نيئة فلا يعارض ذلك الإذن في أكلها مطبوخة بل ربما يدعى أن ظاهر كونها في الطبق: أن تكون نيئة.
الرابع: قوله: «قربوها إلى بعض أصحابي» يقتضي ما ذكرناه من إباحة أكلها وترجيح مذهب الجمهور.
الخامس: قد يستدل به على أن كل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك: أن يكون عذرا في ترك الجماعة إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينافي الزجر وأما حديث جابر الأخير وهو:
9- عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان» وفي رواية: «بنو آدم».
ففيه زيادة «الكراث» وهو في معنى الأول إذ العلة تشمله.
وقد توسع القائسون في هذا حتى ذهب بعضهم إلى أن من به بخر أو جرح منه ريح يجري هذا المجرى كما أنهم توسعوا وأجروا حكم المجامع التي ليست بمساجد- كمصلي العيد ومجمع الولائم- مجرى المساجد لمشاركتها في تأذي الناس بها وقوله عليه السلام: «فإن الملائكة تتأذى» إشارة إلى التعليل بهذا وقوله في حديث آخر: «يؤذينا بريح الثوم» يقتضي ظاهره: التعليل بتأذي بني آدم ولا تنافي بينهما والظاهر: أن كل واحد منهما على مستقلة.


http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب التشهد:
1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد- كفي بين كفيه- كما يعلمني السورة من القرآن: «التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله».
2- وفي لفظ: «إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله- وذكره- وفيه: فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض- وفيه- فليتخير من المسألة ما شاء».
اختلف العلماء في حكم التشهد فقيل: إن الأخير واجب وهو مذهب الشافعي؟ وظاهر مذهب مالك: أنه سنة واستدل للوجوب بقوله فليقل والأمور للوجوب إلا أن مذهب الشافعي: أن مجموع ما توجه إليه ظاهر الأمر ليس بواجب بل الواجب بعضه وهو: (التحيات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) من غير إيجاب ما بين ذلك من المباركات والصلوات الطيبات وكذلك أيضا لا يوجب كل ما بعد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم على اللفظ الذي توجه إليه الأمر بل الواجب بعضه واختلفوا فيه وعلل هذا الاقتصار على بعض ما في الحديث بأنه المتكرر في جميع الروايات وعليه إشكال لأن الزائد في بعض الروايات زيادة من عدل فيجب قبولها إذا توجه الأمر إليها.
واختلف الفقهاء في المختار من ألفاظ التشهد فإن الروايات اختلفت فيه فقال أبو حنيفة وأحمد: باختيار تشهد ابن مسعود هذا وقيل: إنه أصح ما روي في التشهد وقال الشافعي باختيار تشهد ابن عباس وهو في كتاب مسلم لم يذكره المصنف.
ورجح من اختار تشهد ابن مسعود- بعد كونه متفقا عليه في الصحيحين- بأن واو العطف تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فتكون كل جملة ثناء مستقلا وإذا أسقطت واو العطف كان ما عدا اللفظ الأول صفة له فيكون جملة واحدة في الثناء والأول أبلغ فكان أولى.
وزاد بعض الحنفية في تقرير هذا بأن قال: لو قال والله والرحمن والرحيم لكانت أيمانا متعددة تتعدد بها الكفارة ولو قال: والله الرحمن الرحيم لكانت يمينا واحدة فيها كفارة واحدة هذا أو معناه.
ورأيت بعض من رجح مذهب الشافعي في اختيار تشهد ابن عباس أجاب عن هذا بأن قال: واو العطف قد تسقط وأنشد في ذلك:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما



والمراد بذلك كيف أصبحت وكيف أمسيت وهذا أولا إسقاط للواو العاطفة في عطف الجمل ومسألتنا في إسقاطها في عطف المفردات وهو أضعف من إسقاطها في عطف الجمل ولو كان غير ضعيف لم يمتنع الترجيح بوقوع التصريح بما يقتضي تعدد الثناء بخلاف ما لم يصرح به فيه.
وترجيح آخر لتشهد ابن مسعود: وهو أن السلام معرف في تشهد ابن مسعود منكر في تشهد ابن عباس والتعريف أعم.

================================



واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي علمه الناس على المنبر ورجحه وأصابه بشهرة هذا التعليم ووقوعه على رؤوس الصحابة من غير نكير فيكون كالإجماع.
ويترجح عليه تشهد ابن مسعود وابن عباس بأن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرح به ورفع تشهد عمر بطريق استدلالي.
وقد رجح اختيار الشافعي لتشهد ابن عباس: بأن اللفظ الذي وقع فيه مما يدل على العناية بتعلمه وتعليمه وهو قوله كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وهذا ترجيح مشترك لأن هذا أيضا ورد في تشهد ابن مسعود كما ذكر المصنف.
ورجح اختيار الشافعي بأن فيه زيادة (المباركات) وبأنه أقرب إلى لفظ القرآن قال الله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61].
و(التحيات) جمع التحية وهي الملك وقيل: السلام وقيل: العظمة وقيل: البقاء فإذا حمل على السلام فيكون التقدير: التحيات التي تعظم بها الملوك مثلا مستحقة لله تعالى وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله تعالى به وإذا حمل على الملك والعظمة فيكون معناه الملك الحقيقي التام لله والعظمة الكاملة لله لأن ما سوى ملكه وعظمته تعالى فهو ناقص.
و(الصلوات) يحتمل أن يراد بها الصلوات المعهودة ويكون التقدير إنها واجبة لله تعالى لا يجوز أن يقصد بها غيره أو يكون ذلك إخبارا عن إخلاصنا الصلوات له أي إن صلواتنا مخلصة له لا لغيره ويحتمل أن يراد بالصلوات الرحمة ويكون معنى قوله لله أي المتفضل بها والمعطي هو الله لأن الرحمة التامة لله تعالى لا لغيره وقرر بعض المتكلمين في هذا فصلا بأن قال ما معناه إن كل من رحم أحدا فرحمته له بسبب ما حصل له عليه من الرقة فهو برحمته دافع لألم الرقة عن نفسه بخلاف رحمة الله تعالى فإنها لمجرد إيصال النفع إلى العبد.
وأما (الطيبات) فقد فسرت بالأقوال الطيبات ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى أعني:
الطيبات من الأفعال والأقوال والأوصاف وطيب الأوصاف: بكونها بصفة الكمال وخلوصها عن شوائب النقص.
وقوله: (السلام عليك أيها النبي) قيل: معناه التعوذ باسم الله الذي هو السلام كما تقول: الله معك أي متوليك وكفيل بك وقيل: معناه السلام والنجاة لكم كما في قوله تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:91] وقيل الانقياد لك كما في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وليس يخلو بعض هذا من ضعف لأنه لا يتعدى السلام ببعض هذه المعاني بكلمة على.
وقوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) لفظ عموم وقد دل عليه قوله عليه السلام: «فإنه إذا قال ذلك: أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض» وقد كانوا يقولون: السلام على الله السلام على فلان حتى علموا هذه اللفظة من قبله عليه السلام.
وفي قوله عليه السلام: «فإنه إذا قال ذلك أصابت كل عبد صالح» دليل على أن للعموم صيغة وأن هذه الصيغة للعموم كما هو مذهب الفقهاء خلافا لمن توقف في ذلك من الأصوليين وهو مقطوع به من لسان العرب وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة عندنا ومن تتبع ذلك وجده واستدلالنا بهذا الحديث ذكر لفرد من أفراد لا يحصى الجمع لأمثالها لا للاقتصار عليه وإنما خص العباد الصالحون لأنه كلام ثناء وتعظيم.
وقوله عليه السلام: «ثم ليتخير من المسألة ما شاء» دليل على جواز كل سؤال يتعلق بالدنيا والآخرة إلا أن بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي استثنى بعض صور من الدعاء تقبح كما لو قال: اللهم أعطني امرأة صفتها كذا وكذا وأخذ يذكر أوصاف أعضائها ويستدل بهذا الحديث على عدم كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركنا في التشهد من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم التشهد وأمر عقيبه أن يتخير من المسألة ما شاء ولم يعلم ذلك وموضع التعليم لا يؤخر وقت بيان الواجب عنه والله أعلم.
3- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا الله كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد».
الكلام عليه من وجوه:
الأول: كعب بن عجرة من بني سالم بن عوف وقيل: من بني الحارث من قضاعة شهد بيعة الرضوان ومات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة فيما قيل روى له الجماعة كلهم.
الثاني: صيغة الأمر في قوله: «قولوا» ظاهرة في الوجوب وقد اتفقوا على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: تجب في العمر مرة وهو الأكثر وقيل تجب في كل صلاة في التشهد الأخير وهو مذهب الشافعي وقيل إنه لم يقله أحد قبله وتابعه إسحاق وقيل: تجب كلما ذكر واختاره الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية وليس في هذا الحديث تنصيص على أن هذا الأمر مخصوص بالصلاة وقد كثر الاستدلال على وجوبها في الصلاة بين المتفقهة بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة بالإجماع ولا تجب في غير الصلاة بالإجماع فتعين أن تجب في الصلاة وهو ضعيف جدا لأن قوله لاتجب في غير الصلاة بالإجماع إن أراد به: لا تجب في غير الصلاة علينا فهو صحيح لكنه لا يلزم منه: أنه تجب في غير الصلاة عينا لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة فلا يجب واحد من المعينين- أعني خارج الصلاة وداخل الصلاة- وإن أراد ما هو أعم من ذلك- وهو الوجوب المطلق- فممنوع.
الثالث: في وجوب الصلاة على الآل وجهان عند أصحاب الشافعي وقد يتمسك من قال بالوجوب بلفظ الأمر.
الرابع: اختلفوا في (الآل) فاختار الشافعي: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب وقال غيره: أهل دينه عليه السلام قال الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
الخامس: اشتهر بين المتأخرين سؤال وهو: أن المشبه دون المشبه به فكيف يطلب صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تشبه بالصلاة على إبراهيم؟.
والذي يقال فيه وجوه أحدها: أنه تشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا القدر بالقدر وهذا كما اختاروا في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أن المراد: أصل الصيام لا عينه ووقته وليس هذا بالقوي.
الثاني: أن التشبيه وقع في الصلاة على الآل لا على النبي صلى الله عليه وسلم فكأن قوله: «اللهم صل على محمد» مقطوعا عن التشبيه وقوله: «وعلى آل محمد», متصل بقوله: «كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» وفي هذا من السؤال: أن غير الأنبياء لا يمكن أن يساويهم فكيف يطلب وقوع ما لا يمكن وقوعه؟ وهاهنا يمكن أن يرد إلى أصل الصلاة ولا يرد عليه ما يرد على تقدير أن يكون المشبه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله.
الثالث: أن المشبه: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة على إبراهيم وآله أي المجموع بالمجموع ومعظم الأنبياء عليهم السلام هم آل إبراهيم فإذا تقابلت الجملة بالجملة وتعذر أن يكون لآل الرسول عليه السلام مثل ما لآل إبراهيم- الذين هم الأنبياء- كان ما توفر من ذلك حاصلا للرسول صلى الله عليه وسلم فيكون زائدا على الحاصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم والذي يحصل من ذلك هو آثار الرحمة والرضوان فمن كانت في حقه أكثر كان أفضل.
الرابع: أن هذه الصلاة الأمر بها للتكرار بالنسبة إلى كل صلاة في حق كل مصل فإذا اقتضت في كل مصل حصول صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام كان الحاصل للنبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مجموع الصلاة أضعافا مضاعفة لا ينتهي إليها العد والإحصاء.
فإن قلت: التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة والفرد منها فالإشكال وارد.
قلت: متى يرد الإشكال: إذا كان الأمر للتكرار أو إذا لم يكن؟ الأول: ممنوع والثاني: مسلم ولكن هذا الأمر للتكرار بالاتفاق وإذا كان التكرار فالمطلوب من المجموع: حصول مقدار لا يحصى من الصلاة بالنسبة إلى المقدار الحاصل لإبراهيم عليه السلام.
الخامس: لا يلزم من مجرد السؤال لصلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام المساواة أو عدم الرجحان عند السؤال وإنما يلزم ذلك لو لم يكن الثابت للرسول صلى الله عليه وسلم صلاة مساوية لصلاة إبراهيم أو زائدة عليها أما إذا كان كذلك فالمسؤول من الصلاة إذا انضم إلى الثابت المتكرر للرسول صلى الله عليه وسلم كان المجموع زائدا في المقدار على القدر المسؤول وصار هذا في المثال كما إذا ملك إنسان أربعة آلاف درهم وملك آخر ألفين فسألنا أن نعطي صاحب الأربعة آلاف مثل ما لذلك الآخر وهو الألفان فإذا حصل ذلك انضمت الألفان إلى أربعة آلاف فالمجموع ستة آلاف وهي زائدة على المسؤول الذي هو ألفان.
السادس من الكلام على الحديث: قوله إنك حميد مجيد بمعنى محمود ورد بصيغة المبالغة أي مستحق لأنواع المحامد ومجيد مبالغة من ماجد والمجد الشرف فيكون ذلك كالتعليل لاستحقاق الحمد بجميع المحامد ويحتمل أن يكون حميد مبالغة من حامد ويكون ذلك كالتعليل للصلاة المطلوبة فإن الحمد والشكر متقاربان فحميد قريب من معنى شكور وذلك مناسب لزيادة الأفضال والإعطاء لما يراد من الأمور العظام وكذلك والمجد والشرف مناسبته لهذا المعنى ظاهرة.
والبركة الزيادة والنماء من الخير والله أعلم.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وعذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال».
وفي لفظ لمسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم»- ثم ذكر نحوه.
في الحديث إثبات عذاب القبر وهو متكرر مستفيض في الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان به واجب.
و«فتنة المحيا» ما يتعرض له الإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأشدها وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت.
و«فتنة الممات» يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إلى الموت لقربها منه وتكون فتنة المحيا- على هذا- ما يقع قبل ذلك في مدة حياة الإنسان وتصرفه في الدنيا فإن ما قارب شيئا يعطى حكمه فحالة الموت تشبه بالموت ولا تعد من الدنيا ويجوز أن يكون المراد بفتنة الممات: فتنة القبر كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فتنة القبر: «كمثل- أو أعظم- من فتنة الدجال» ولا يكون على هذا متكررا مع قوله من عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة: والسبب غير المسبب ولا يقال: إن المقصود زوال عذاب القبر لأن الفتنة نفسها أمر عظيم وهو شديد يستعاذ بالله من شره.
والحديث الذي ذكره عن مسلم فيه زيادة كون الدعوات مأمورا بها بعد التشهد وقد ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور حيث أمرنا بها في كل صلاة وهي حقيقة بذلك لعظم الأمر فيها وشدة البلاء في وقوعها ولأن أكثرها- أو كلها- أمور إيمانية غيبية فتكررها على الأنفس يجعلها ملكة لها.
وفي لفظ مسلم أيضا فائدة أخرى وهي: تعليم الاستعاذة وصيغتها فإنه قد كان يمكن التعبير عنها بغير هذا اللفظ ولو عبر بغيره لحصل المقصود وامتثل الأمر ولكن الأولى قول ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الظاهرية إلى وجوب هذا الدعاء في هذا المحل.
وليعلم أن قوله عليه السلام: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ» عام في التشهد الأول والأخير معا وقد اشتهر بين الفقهاء استحباب التخفيف في التشهد الأول وعدم استحباب الدعاء بعده حتى تسامح بعضهم في الصلاة على الآل فيه: ومن يكون إذا ورد تخصيصه بالأخير متمسكا لهم من باب حمل المطلق على المقيد أو من باب حمل العام على الخاص وفيه بحث أشرنا إليه فيما تقدم والعموم الذي ذكرنا يقتضي الطلب بهذا الدعاء فمن خصه فلابد له من دليل راجح وإن كان نصا فلابد من صحته والله أعلم.
5- عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم».
هذا الحديث يقضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين لمحله ولو فعل فيها- حيث لا يكره الدعاء في أي الأماكن كان- لجاز ولعل الأولى: أن يكون في أحد موطنين: إما السجود وإما بعد التشهد فإنهما الموضعان اللذان أمرنا فيهما بالدعاء قال عليه الصلاة والسلام: «وأما السجود: فاجتهدوا فيه في الدعاء» وقال في التشهد: «وليتخير بعد ذلك من المسألة ما شاء» ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد: لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل.

==============


وقوله: «إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا» دليل على أن الإنسان لا يعرى من ذنب وتقصير كما قال عليه الصلاة والسلام: «استقيموا ولن تحصوا» وفي الحديث: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» وربما أخذوا ذلك من حيث الأمر بهذا القول مطلقا من غير تقييد وتخصيص بحالة فلو كان ثمة حالة لا يكون فيها ظلم ولا تقصير لما كان هذا الإخبار مطابقا للواقع فلا يؤمر به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يغفر الذنوب إلا أنت» إقرار بوحدانية الباري تعالى واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار كما قال تعالى: «علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب» وقد وقع في هذا الحديث امتثال لما أثنى الله تعالى عليه في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يغفر الذنوب إلا أنت» كقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
وقوله: «فاغفر لي مغفرة من عندك» فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون إشارة إلى التوحيد المذكورة كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت فافعله أنت.
والثاني:- وهو الأحسن-: أن يكون إشارة إلى طلب المغفرة متفضل بها من عند الله تعالى ولا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس للعبد فيها سبب وهذا تبرؤ من الأسباب والإدلال بالأعمال والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوبا عقليا والمغفرة الستر في لسان العرب والرحمة من الله تعالى- عند المنزهين من الأصوليين عن التشبيه- أما نفس الأفعال التي يوصلها الله تعالى من الإنعام والإفضال إلى العبد وأما إرادة إيصال تلك الأفعال إلى العبد فعلى الأول: هي من صفات الفعل وعلى الثاني هي من صفات الذات.
وقوله: «إنك أنت الغفور الرحيم» صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما قبله فالغفور مقابل لقوله: «فاغفر لي» والرحيم مقابل لقوله: «ارحمني» وقد وقعت المقابلة هاهنا للأول بالأول والثاني بالثاني وقد يقع على خلاف ذلك بأن يراعي القرب فيجعل الأول للأخير وذلك على حسب اختلاف المقاصد وطلب التفنن في الكلام ومما يحتاج إليه في علم التفسير: مناسبة مقاطع الآي لما قبلها والله أعلم.
6- عن عائشة رضي الله عنها قال: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]- إلا ويقول فيها: «سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي».
وفي لفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي».
حديث عائشة فيه مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى امتثال ما أمره الله تعالى به وملازمته لذلك.
وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد أن يسبح بنفس الحمد لما يتضمنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو التنزيه لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله تعالى وحده وفي ذلك نفي الشركة.
الوجه الثاني: أن يكون المراد: فسبح متلبسا بالحمد فتكون الباء دالة على الحال وهذا يترجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سبح وحمد بقوله «سبحانك وبحمدك» وعلى مقتضى الوجه الأول: يكتفي بالحمد فقط وكأن تسبيح الرسول على هذا الوجه دليلا على ترجيح المعنى الثاني.
وقوله: «وبحمدك» قيل معناه: وبحمدك سبحت وهذا يحتمل أن يكون فيه حذف أي بسبب حمد الله سبحت ويكون المراد بالسبب ههنا: التوفيق والإعانة على التسبيح واعتقاد معناه وهذا كما روى عن عائشة في الصحيح: «بحمد الله لا بحمدك» أي وقع هذا بسبب حمد الله أي بفضله وإحسانه وعطائه فإن الفضل والإحسان سبب للحمد فيعبر عنهما بالحمد.
وقوله: «اللهم اغفر لي» امتثال لقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] بعد امتثال قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] وأما اللفظ الآخر: فإنه يقتضي الدعاء في الركوع وإباحته ولا يعارضه قوله عليه السلام: «أما الركوع: فعظموا فيه الرب وأما السجود: فاجتهدوا فيه بالدعاء» فإنه من هذا الحديث الجواز ومن ذلك الأولوية بتخصيص الركوع بالتعظيم ويحتمل أن يكون السجود قد أمر فيه بتكثير الدعاء لإشارة قوله: «فاجتهدوا» واحتمالها للكثرة والذي وقع في الركوع من قوله: «اغفر لي» ليس كثيرا فليس فيه معارضة ما أمر به في السجود.
وفي حديث عائشة الأول سؤال وهو أن لفظة إذا تقتضي الاستقبال وعدم حصول الشرط حينئذ وقول عائشة: (ما صلى بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1]) يقتضي تعجيل هذا القول لقرب الصلاة الأولى التي هي عقيب نزول الآية من النزول والفتح أي فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا يحتاج إلى مدة أوسع من الوقت الذي بعد نزول الآية والصلاة الأولى بعده.
وقول عائشة في بعض الروايات يتأول القرآن قد يشعر بأنه يفعل ما أمر به فيه فإن كان الفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا حاصلا عند نزول الآية فكيف يقال فيها إذا جاء وإن لم يكن حاصلا فكيف يكون القول امتثالا للأمر الوارد بذلك ولم يوجد شرط الأمر به؟.
وجوابه: أن نختار أنه لم يكن حاصلا على مقتضى اللفظ ويكون صلى الله عليه وسلم قد بادر إلى فعل المأمور به قبل وقوع الزمن الذي تعلق به الأمر فيه إذ ذلك عبادة بادر إلى فعل المأمور به قبل وقوع الزمن الذي تعلق به الأمر فيه إذ ذلك عبادة وطاعة لا تختص بوقت معين فإذا وقع الشرط كان الواقع من هذا القول- بعد وقوعه- واقعا على حسب الامتثال وقبل وقوع الشرط واقعا على حسب التبرع وليس في قول عائشة يتأول القرآن ما يقتضي- ولابد- أن يكون جميع قوله صلى الله عليه وسلم على جهة الامتثال للمأمور حتى يكون دالا على وقوع الشرط بل مقتضاه: أن يفعل تأويل القرآن وما دل عليه لفظ فقط وجاز أن يكون بعض هذا القول فعلا لطاعة مبتدأة وبعضه امتثالا للأمر والله أعلم.


http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب الوتر:
الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل؟ قال: «مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى وإنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا».
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى» وأخذ به مالك رحمه الله في أنه لا يزاد في صلاة التنفل على ركعتين وهو ظاهر في اللفظ في صلاة الليل وقد ورد حديث آخر: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» وإنما قلنا: إنه ظاهر اللفظ لأن المبتدأ محصور في الخبر فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى وذلك هو المقصود إذ هو ينافي الزيادة فلو جازت الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى.
وهذا يعارضه ظاهر حديث عائشة الآتي وقد أخذ به الشافعي وأجاز الزيادة على ركعتين من غير حصر في العدد وذكر بعض مصنفي أصحابه شرطين في ذلك وحاصل قوله: أنه متى تنفل بأزيد من ركعتين شفعا أو وترا فلا يزيد على تشهدين ثم إن كان المتنفل به شفعا فلا يزيد بين التشهدين على ركعتين وإن كان وترا فلا يزيد بين التشهدين على ركعة.
فعلى هذا إذا تنفل بعشر جلس بعد الثامنة ولا يجلس بعد السابعة ولا بعد ما قبلها من الركعات لأنه حينئذ يكون قد زاد على ركعتين بين التشهدين فإذا تنفل بخمس مثلا جلس بعد الرابعة وبعد الخامسة إن شاء أو بسبع فبعد السادسة والسابعة وإن اقتصر على جلوس واحد في كل ذلك جاز.
وإنما ألجأه إلى ذلك: تشبيه النوافل بالفرائض والفريضة الوتر هي صلاة المغرب وليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعة ولم يتفق أصحاب الشافعي على هذا الذي ذكره.
الوجه الثاني من الكلام على الحديث: أنه كان يقتضي ظاهره عدم الزيادة على ركعتين فكذلك يقتضي عدم النقصان منهما وقد اختلفوا في التنفل بركعة فردة والمذكور في مذهب الشافعي: جوازه وعن أبي حنيفة: منعه والاستدلال به لهذا القول كما تقدم وهو أولى من استدلال من استدل على ذلك بأنه لو كانت الركعة الفردة صلاة لما امتنع قصر صلاة الصبح والمغرب فإن ذلك ضعيف جدا.
الوجه الثالث: يقتضي الحديث تقديم الشفع على الوتر من قوله: «صلاة الليل مثنى مثنى» وقوله: «توتر له ما صلى» فلو أوتر بعد صلاة العشاء من غير شفع لم يكن آتيا بالسنة وظاهر مذهب مالك أنه لا يوتر بركعة فردة هكذا من غير حاجة.
الوجه الرابع: يفهم منه انتهاء وقت الوتر بطلوع الفجر من قوله: «فإذا خشي أحدكم الصبح» وفي مذهب الشافعي وجهان أحدهما: أنه ينتهي بطلوع الفجر والثاني: ينتهي بصلاة الصبح.
الوجه الخامس: قد يستدل بصيغة الأمر من يرى وجوب الوتر فإن كان يرى بوجوب كونه آخر صلاة الليل فاستدلال قريب ولا أعلم أحدا قال ذلك وإن كان لا يرى بذلك فيحتاج أن يحمل الصيغة على الندب ولا يستقيم الاستدلال بها على وجوب أصل الوتر عند من يمنع من استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز وإلا كان جمعا بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة وهي صيغة الأمر.
الوجه السادس: يقتضي الحديث أن يكون الوتر آخر صلاة الليل فلو أوتر ثم أراد التنفل فهل يشفع وتره بركعة أخرى ثم يصلي؟ فيه وجهان للشافعية وإن لم يشفعه بركعة ثم تنفل فهل يعيد الوتر أخيرا؟ فيه قولان للمالكية فيمكن كل واحد من الفريقين أن يستدل بالحديث بعد تقديم مقدمة لكل منهما يحتاج إلى إثباتها.
أما من قال إنه يشفع وتره فيقول: الحديث يقتضي أن يكون آخر صلاة الليل وترا وذلك يتوقف على أن لا يكون قبله وتر لما جاء في الحديث: «لا وتران في الليلة» فلزم عن ذلك: أن يشفع الوتر الأول فإنه أن لم يشفعه وأعاد الوتر لزم وتران في ليلة وإن لم يعد الوتر لم يكن آخر صلاة الليل وترا.
وأما من قال: لا يشفع ولا يعيد الوتر فلأنه منع أن ينعطف حكم صلاة على أخرى بعد السلام والحديث وطول الفصل إن وقع ذلك فإذا لم يجتمعا فالحقيقة أنهما وتران ولا وتران في ليلة فامتنع الشفع وامتنع إعادة الوتر أخيرا ولم يبق إلا مخالفة ظاهر قوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» ولا يحتاج إلى الاعتذار وهو محمول على الاستحباب كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك وترك المستحب أولى من ارتكاب المكروه.
وأما من قال بالإعادة: فهو أيضا مانع من شفع الوتر للأول محافظة على قوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» ويحتاج إلى الاعتذار عن قوله: «ولا وتران في ليلة».
واعلم أنه ربما يحتاج في هذه المسألة إلى مقدمة أخرى وهو أن التنفل بركعة فردة: هل يشرع؟ فعليك بتأمله.
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر).
اختلفوا في أن الأفضل تقديم الوتر في أول الليل أو تأخيره إلى آخره؟ على وجهين لأصحاب الشافعي مع الاتفاق على جواز ذلك.
وحديث عائشة يدل على الجواز في الأول والوسط والآخر ولعل ذلك كان بحسب اختلاف الحالات وطرو الحاجات وقيل: بالفرق بين من يرجو أن يقوم في آخر الليل وبين من يخاف أن لا يقوم والأول تأخيره أفضل والثاني: تقديمه أفضل.
ولا شك أنا إذا نظرنا إلى آخر الليل من حيث هو كذلك كانت الصلاة فيه أفضل من أوله لكن إذا عارض ذلك احتمال تفويت الأصل قدمناه على فوات الفضيلة وهذه قاعدة قد وقع فيها خلاف ومن جملة صورها: ما إذا كان عادم الماء يرجو وجوده في آخر الوقت فهل يقدم التيمم في أول الوقت إحرازا للفضيلة المحققة أم يؤخره إحرازا للوضوء؟ فيه خلاف: والمختار في مذهب الشافعي أن التقديم أفضل فعليك بالنظر في التنظير بين المسألتين والموازنة بين الصورتين.
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها).
هذا كما قدمناه يتمسك به في جواز الزيادة على ركعتين في النوافل وتأوله بعض المالكية بتأويل لا يتبادر إلى الذهن وهو أن حمل ذلك على أن الجلوس في محل القيام لم يكن إلا في آخر ركعة كأن الأربع كانت الصلاة فيها قياما والأخيرة كانت جلوسا في محل القيام وربما دل لفظه على تأويل أحاديث قدمها هذا منها بأن السلام وقع بين ركعتين وهذا مخالفة للفظ فإنه لا يقع السلام بين كل ركعتين إلا بعد الجلوس وذلك ينافيه قولها: (لا يجلس إلا في آخرها) وفي هذا نظر.
واعلم أن محط النظر هو الموازنة بين الظاهر من قوله عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى» في دلالته على الحصر وبين دلالة هذا الفعل على الجواز والفعل يتطرق إليه الخصوص إلا أنه بعيد لا يصار إليه إلا بدليل فتبقى دلالة الفعل على الجواز معارضة بدلالة اللفظ على الحصر ودلالة الفعل على الجواز عندنا أقوى نعم يبقى نظر آخر وهو أن الأحاديث دلت على جواز أعداد مخصوصة فإذا جمعناها ونظرنا أكثرها فما زاد عليه إذا قلنا بجوازه كان قولا بالجواز مع اقتضاء الدليل منعه من غير معارضة الفعل له.
فلقائل أن يقول: يعمل بدليل المنع حيث لا معارض له من الفعل إلا أن يصد عن ذلك إجماع أو يقوم دليل على أن الأعداد المخصوصة ملغاة عن الاعتبار ويكون الحكم الذي دل عليه الحديث مطلق الزيادة فهنا يمكن أمران:
أحدهما: أن نقول مقادير العبادات يغلب عليها التعبد فلا يجزم بأن المقصود مطلق الزيادة.
والثاني: أن يقول المانع المخل هو الزيادة على مقدار الركعتين وقد ألغي بهذه الأحاديث ولا يقوى كثيرا والله عز وجل أعلم.

==========




http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب الذكر عقيب الصلاة:
16- باب الذكر عقيب الصلاة.
1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته).
وفي لفظ: «ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير».
فيه دليل على جواز الجهر بالذكر عقيب الصلاة والتكبير بخصوصه من جملة الذكر قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء يكبر بعد صلاته ويكبر من خلفه قال غيره: ولم أجد من الفقهاء من قال هذا إلا ما ذكره ابن حبيب في الواضحة: كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرا عاليا ثلاث مرات وهو قديم من شأن الناس وعن مالك أنه محدث.
وقد يؤخذ منه تأخير الصبيان في الموقف لقول ابن عباس ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله إلا بالتكبير فلو كان متقدما في الصف الأول لعلم انقضاء الصلاة بسماع التسليم وقد يؤخذ منه أنه لم يكن ثمة مسمع جهير الصوت يبلغ التسليم بجهارة صوته.
2- عن وراد مولى المغير بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة من كتاب إلى معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ثم وفدت بعد ذلك على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك.
وفي لفظ: «كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وكان ينهى عن عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات».
فيه دليل على استحباب هذا الذكر المخصوص عقيب الصلاة وذلك لما اشتمل عليه من معاني التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله تعالى والمنع والإعطاء وتمام القدرة والثواب المرتب على الأذكار يرد كثيرا مع خفة الأذكار على اللسان وقلتها وإنما كان ذلك باعتبار مدلولاتها وأن كلها راجعة إلى الإيمان الذي هو أشرف الأشياء.
والجد: الحظ ومعنى «لا ينفع ذا الجد منك الجد» لا ينفع ذا الحظ حظه وإنما ينفعه العمل الصالح و«الجد» هاهنا- وإن كان مطلقا- فهو محمول على حظ الدنيا.
وقوله: «منك» متعلق بينفع وينبغي أن يكون «ينفع» متضمنا معنى يمنع أو ما يقاربه ولا يعود «منك» إلى الجد على الوجه الذي يقال فيه حظي منك قليل أو كثير بمعنى عنايتك بي أو رعايتك لي فغن ذلك نافع.
وفي أمر معاوية بذلك المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها وفيه جواز العمل بالمكاتبة بالأحاديث وإجرائها مجرى المسموع والعمل بالخط في مثل ذلك إذا أمن تغييره وفيه قبول خبر الواحد وهو فرد من أفراد لا تحصى كما قررناه فيما تقدم.
وقوله عن قيل وقال الأشهر فيه: بفتح اللام على سبيل الحكاية وهذا النهي لابد من تقييده بالكثرة التي لا يؤمن معها وقوع الخطل والخطأ والتسبب إلى وقوع المفاسد من غير تعيين والإخبار بالأمور الباطلة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» وقال بعض السلف: لا يكون إماما من حدث بكل ما سمع.
وأما (إضاعة المال) فحقيقته المتفق عليها بذله في غير مصلحة دينية أو دنيوية وذلك ممنوع لأن الله تعالى جعل الأموال قياما لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت لتلك المصالح إما في حق مضيعها أو في حق غيره وأما بذله وكثرة إنفاقه في تحصيل مصالح الأخرى فلا يمتنع من حيث هو وقد قالوا: لا سرف في الخير وأما إنفاقه في مصالح.
الدنيا وملاذ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق وقدر ماله ففي كونه سفها خلاف والمشهور أنه سفه وقال بعض الشافعية ليس بسفه لأنه يقوم به مصالح البدن وملاذه وهو غرض صحيح وظاهر القرآن يمنع من ذلك والأشهر في مثل هذا أنه مباح أعني إذا كان الإنفاق في غير معصية وقد نوزع فيه.
وأما كثرة السؤال ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك راجعا إلى الأمور العلمية وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته» وفي حديث اللعان لما سئل عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وفي حديث معاوية: (نهى عن الأغلوطات) وهي شداد المسائل وصعابها وإنما كان ذلك مكروها لما يتضمن كثير منه من التكلف في الدين والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن والأصل المنع من الحكم بالظن إلا حيث تدعو الضرورة إليه.
الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعا إلى سؤال المال وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس ولا شك أن سؤال الناس بعض أموالهم ممنوع وذلك حيث يكون الإعطاء بناء على ظاهر الحال ويكون الباطن خلافه أو يكون السائل مخبرا عن أمر هو كاذب فيه قد جاء في السنة ما يدل على اعتبار ظاهر الحال في هذا وهو ما روي: أنه مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيتان» وإنما كان ذلك والله أعلم لأنهم كانوا فقراء مجردين يأخذون ويتصدق عليهم بناء على الفقر والعدم وظهر أن معه هذين الدينارين على خلاف ظاهر حاله والمنقول عن مذهب الشافعي جواز السؤال فإذا قيل بذلك فينبغي النظر في تخصيص المنع بالكثرة فإنه إن كانت الصورة تقتضي المنع فالسؤال مممنوع كثيره وقليله وعن لم نقتض المنع فينبغي حمل هذا النهي على الكراهة للكثير من السؤال مع أنه لا يخلو السؤال من غير حاجة عن كراهة فتكون الكراهة في الكثرة أشد وتكون هي المخصوصة بالنهي.
وتبين من هذا أن من يكره السؤال مطلقا- حيث لا يحرم- ينبغي أن لا يحمل قوله:«كثرة السؤال» على الوجه الأول المتعلق بالمسائل الدينية أو يجعل النهي دالا على المرتبة الأشدية من الكراهة.
وتخصيص العقوق بالأمهات مع امتناعه في الآباء أيضا لأجل شدة حقوقهن ورجحان الأمر ببرهن بالنسبة إلى الآباء وهذا من باب تخصيص الشيء بالذكر لإظهار عظمه في المنع إن كان ممنوعا وشرفه إن كان مأمورا به وقد يراعى في موضع آخر التنبيه بذكر الأدنى على الأعلى فيخص الأدنى بالذكر وذلك بحسب اختلاف المقصود.
و(وأد البنات) عبارة عن دفنهن مع الحياة وهذا التخصيص بالذكر لأنه كان هو الواقع في الجاهلية فتوجه النهي إليه لأن الحكم مخصوص بالبنات.
و(منع وهات) راجع إلى السؤال مع ضميمة النهي عن المنع وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المنع حيث يؤمر بالإعطاء وعن السؤال حيث يمنع منه فيكون كل واحد مخصوصا بصورة غير صورة الآخر.
والثاني: أن يجتمعا في صورة واحدة ولا تعارض بينهما فيكون وظيفة الطالب أن لا يسأل ووظيفة المعطي أن لا يمنع إذا وقع السؤال وهذا لابد أن يستثنى منه ما إذا كان المطلوب محرما على الطالب فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه لكونه معينا على الإثم ويحتمل أن يكون الحديث محمولا على الكثرة من السؤال والله أعلم.
3- عن سمي- مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العليا والنعيم المقيم قال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم»؟ قالوا: بلى يا رسول الله, قال: «تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة» قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».
قال سمي: فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث فقال: وهمت إنما قال لك: تسبح الله ثلاثا وثلاثين وتحمد الله ثلاثا وثلاثين وتكبر الله ثلاثا وثلاثين فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك فقال: قل: «الله أكبر وسبحان الله والحمد لله حتى تبلغ من جميعهن ثلاثا وثلاثين».
الحديث يتعلق بالمسألة المشهورة بالتفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر وقد اشتهر الخلاف والفقراء ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي تفضيل الأغنياء بسبب القربات المتعلقة بالمال وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولكن علمهم ما يقوم مقام تلك الزيادة فلما قالها الأغنياء ساووهم فيها وبقي معهم رجحان قربات الأموال فقال عليه السلام: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» فظاهره القريب من النص أنه فضل الأغنياء بزيادة القربات المالية. وبعض الناس تأول قوله: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» بتأويل مستكره يخرجه عما ذكرناه من الظاهر.
والذي يقتضيه الأصل أنهما إن تساويا وحصل الرجحان بالعبادات المالية أن يكون الغني أفضل ولا شك في ذلك وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط وانفرد كل واحد بمصلحة ما هو فيه وإذا كانت المصالح متقابلة ففي ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضل فإن فسر بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة وإن كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقراء ولهذا المعنى ذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى فكان الأفضل بمعنى الأشرف.
وقوله: (ذهب أهل الدثور الدثر): هو المال الكثير.
وقوله: «تدركون من سبقكم» يحتمل أن يراد به السبق المعنوي وهو السبق في الفضيلة وقوله من بعدكم أي من بعدكم في الفضيلة ممن لا يعمل هذا العمل ويحتمل أن يراد القبلية الزمانية والبعدية الزمانية ولعل الأول أقرب إلى السياق فإن سؤالهم كان عن أمر الفضيلة وتقدم الأغنياء فيها.
وقوله: «لا يكون أحد أفضل منكم» يدل على ترجيح هذه الأذكار على فضيلة المال وعلى أن تلك الفضيلة للأغنياء مشروطة بأن لا يفعلوا هذا الفعل الذي أمر به الفقراء وفي تلك الرواية تعليم كيفية هذا الذكر وقد كان يمكن أن يكون فرادى- أي كل كلمة على حدة- ولو فعل ذلك جاز وحصل به المقصود ولكن بين في هذه الرواية أنه يكون مجموعا ويكون العدد للجملة وإذا كان كذلك يحصل في كل فرد هذا العدد والله أعلم.
4- عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي».
الخميصة: كساء مربع له أعلام والإنبجانة: كساء غليظ.
فيه دليل على جواز لباس الثوب ذي العلم ودليل على أن اشتغال الفكر يسيرا غير قادح في الصلاة.
وفيه دليل على طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها ونفي ما يقتضي شغل الخاطر بغيرها.
وفيه دليل على مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصالح الصلاة ونفي ما يخدش فيها حيث أخرج الخميصة واستبدل بها غيرها مما لا يشغل فهذا مأخوذ عن قوله: «فنظر إليها نظرة».
وبعثه إلى أبي جهم بالخميصة لا يلزم منه أن يستعملها في الصلاة كما جاء في حلة عطارد وقوله عليه السلام لعمر: «إني لم أكسكها لتلبسها» وقد استنبط الفقهاء من هذا كراهة كل ما يشغل عن الصلاة من الأصباغ والنقوش والصنائع المستطرفة فإن الحكم يعم بعموم علته والعلة الاشتغال عن الصلاة وزاد بعض المالكية في هذا: كراهة غرس الأشجار في المساجد.
والإنبجانة يقال بفتح الهمزة وكسرها وكذلك في الباء وكذلك الياء تخفف وتشدد وقيل إنها الكساء من غير علم فإن كان فيه علم فهو خميصة.
وفيه دليل على قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم والطلب لها ممن يظن به السرور بذلك أو المسامحة.

===========




http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب الجمع بين الصلاتين في السفر:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء».
هذا اللفظ في هذا الحديث ليس في كتاب مسلم وإنما هو في كتاب البخاري وإما رواية ابن عباس في الجمع بين الصلاتين في الجملة من غير اعتبار لفظ بعينه فمتفق عليه.
ولم يختلف الفقهاء في جواز الجمع في الجملة لكن أبا حنيفة يخصصه بالجمع بعرفة ومزدلفة وتكون العلة فيه النسك لا السفر ولهذا يقال: لا يجوز الجمع عنده بعذر السفر, وأهل هذا المذهب يؤولون الأحاديث التي وردت بالجمع على أن المراد تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها.
وتقديم الثانية في أول وقتها وقد قسم بعض الفقهاء الجمع إلى جمع مقارنة وجمع مواصلة وأراد بجمع المقارنة أن يكون الشيئان في وقت واحد كالأكل والقيام مثلا فإنهما يقعان في وقت واحد وأراد بجمع المواصلة أن يقع أحدهما عقيب الآخر وقصد إبطال تأويل أصحاب أبي حنيفة بما ذكرناه لأن جمع المقارنة لا يمكن في الصلاتين إذ لا يقعان في حالة واحدة وأبطل جمع المواصلة أيضا وقصد بذلك إبطال التأويل المذكور إذ لم يتنزل على شيء من القسمين.
وعندي: أنه لا يبعد أن يتنزل على الثاني إذا وقع التحري في الوقت أو وقع المسامحة بالزمن اليسير بين الصلاتين إذا وقع فاصلا ولكن بعض الروايات في الأحاديث لا يحتمل لفظها هذا التأويل إلا على بعد كبير أو لا يحتمل أصلا فإما ما لا يحتمل فإذا كان صحيحا في سنده فيقطع العذر وأما ما يبعد تأويله فيحتاج إلى أن يكون الدليل المعارض له أقوى من العمل بظاهره وهذا الحديث الذي في الكتاب ليس يبعد تأويله كل البعد بما ذكر من التأويل وأما ظاهره فإن ثبت أن الجمع حقيقة لا يتناول صورة التأويل فالحجة قائمة به حتى يكون الدليل المعارض له أقوى من ذلك التأويل من هذا الظاهر.
والحديث يدل على الجمع إذا كان على ظهر سير ولولا ورود غيره من الأحاديث بالجمع في غير هذه الحالة لكان الدليل يقتضي امتناع الجمع في غيرها لأن الأصل عدم جواز الجمع ووجوب إيقاع الصلاة في وقتها المحدد لها وجواز الجمع بهذا الحديث قد علق بصفة مناسبة للاعتبار فلم يكن ليجوز إلغاؤها لكن إذا صح الجمع في حالة النزول فالعمل به أولى لقيام دليل آخر على الجواز في غير هذه الصورة أعني السير وقيام ذلك الدليل يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف ولا يمكن أن يعارض ذلك الدليل بالمفهوم من هذا الحديث لأن دلالة ذلك المنطوق على الجواز في تلك الصورة بخصوصها أرجح.
وقوله: «وكذلك المغرب والعشاء» يريد في طريق الجمع وظاهره اعتبار الوصف الذي ذكره فيهما وهو كونه على ظهر سير وقد دل الحديث على الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ولا خلاف أن الجمع ممتنع بين الصبح وغيرها وبين العصر والمغرب كما لا خلاف في جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة.
ومن هاهنا ينشأ نظر القائسين في مسألة الجمع فأصحاب أبي حنيفة يقيسون الجمع المختلف فيه على الجمع الممتنع اتفاقا ويحتاجون إلى إلغاء الوصف الفارق بين محل النزاع ومحل الإجماع وهو الاشتراك الواقع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء إما مطلقا أو في حالة العذر وغيرهم يقيس الجواز في محل النزاع على الجواز في محل الإجماع ويحتاج إلى إلغاء الوصف الفارق وهو إقامة النسك.


http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب قصر الصلاة في السفر:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك».
هذا هو لفظ رواية البخاري في الحديث ولفظ رواية مسلم أكثر وأزيد فليعلم ذلك.
وفي الحديث دليل على المواظبة على القصر وهو دليل على رجحان ذلك وبعض الفقهاء قد أوجب القصر والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب لكن المتحقق من هذه الرواية الرجحان فيؤخذ منه وما زاد مشكوك فيه فيترك وقد خرج قول الشافعي أن الإتمام أفضل قياسا على قوله إن الصيام أفضل والصحيح أن القصر أفضل أما أولا: فلمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما ثانيا: فلقيام الفارق بين القصر والصوم فإن الأول يبرئ الذمة من الواجب خلاف الثاني وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى التنفل في السفر وقال لو كنت متنفلا لأتممت.
فقوله: «لا يزيد» يحتمل أن يريد: لا يزيد في عدد ركعات الفرض ويحتمل أن يريد: لا يزيد نفلا وحمله على الثاني أولى لأنه وردت أحاديث عن ابن عمر يقتضي سياقها أنه أراد ذلك ويمكن أن يراد العموم فيدخل فيه هذا أعني النافلة في السفر تبعا لا قصدا.
وذكره لأبي بكر وعمر وعثمان مع أن الحجة قائمة بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين- والله أعلم- أن ذلك كان معمولا به عند الأئمة لم يتطرق إليه النسخ ولا معارض راجح وقد فعل ذلك مالك- رحمه الله- في موطئه لتقويته بالعمل.


http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب الجمعة:
1- عن سهل بن سعد الساعدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال: «أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي».
وفي لفظ: «صلى عليها ثم كبر عليها ثم ركع وهو عليها فنزل القهقرى».
أبو العباس: سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري وبنو ساعدة من الأنصار متفق على إخراج حديثه مات سنة إحدى وتسعين وهو ابن مائة سنة وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيه دليل على جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه المأموم لقصد التعليم وقد بين ذلك في لفظ الحديث فإما من غير هذا القصد فقد قيل بكراهته وزاد أصحاب مالك أو من قال منهم فقالوا: إن قصد التكبر بطلت صلاته ومن أراد أن يجيز هذا الارتفاع من غير قصد التعلم فاللفظ لا يتناوله والقياس لا يستقيم لانفراد الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره.
وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة لكن فيه إشكال على من حدد الكثير من العمل بثلاث خطوات فإن منبر النبي صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات والصلاة كانت على العليا ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات فأكثر وأقله ثلاث خطوات والذي يعتذر به عن هذا أن يدعى عدم التوالي بين الخطوات فإن التوالي شرط في الإبطال أو ينازع في كون قيام هذه الصلاة فوق الدرجة العليا.
وفيه دليل على جواز إقامة الصلاة أو الجماعة لغرض التعليم كما صرح به في لفظ الحديث والرواية الأخيرة: قد توهم أنه نزل في الركوع ربما يقوى هذا باقتضاء الفاء للتعقيب ظاهرا لكن الرواية الأولى تبين أن النزول كان بعد القيام من الركوع والمصير إلى الأولى أوجب لأنها نص ودلالة الفاء على التعقيب ظاهرة والله أعلم.
2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل».
الحديث صريح في الأمر بالغسل للجمعة وظاهر الأمر الوجوب وقد جاء مصرحا به بلفظ الوجوب في حديث آخر فقال بعض الناس بالوجوب بناء على الظاهر وخالف الأكثرون فقالوا بالاستحباب وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر فأولوا صيغة الأمر على الندب وصيغة الوجوب على التأكيد كما يقال: حقك واجب علي وهذا التأويل الثاني أضعف من الأول وإنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا في الدلالة على هذا الظاهر وأقوى ما عارضوا به حديث: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل» ولا يقاوم سنده سند هذه الأحاديث وإن كان المشهور من سنده صحيحا على مذهب بعض أصحاب الحديث وربما احتمل أيضا تأويلا مستكرها بعيدا كبعد تأويل لفظ الوجوب على التأكيد وأما غير هذا الحديث من المعارضات المذكورة لما ذكرناه من دلائل الوجوب فلا تقوى دلالته على عدم الوجوب لقوة دلائل الوجوب عليه وقد نص مالك على الوجوب فحمله المخالفون ممن لم يمارسوا مذهبه على ظاهره وحكي عن أنه يروي الوجوب ولم ير ذلك أصحابه على ظاهره.
وفي الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة والمراد إرادة المجيء وقصد الشروع فيه وقال مالك به واشترك الاتصال بين الغسل والرواح وغيره لا يشترط ذلك.
ولقد أبعد الظاهري إبعادا يكاد يكون مجزوما ببطلانه حيث لم يشترط تقدم الغسل على إقامة صلاة الجمعة حتى اغتسل قبل الغروب كفى عنده تعلقا بإضافة الغسل إلى اليوم في بعض الروايات وقد تبين من بعض الأحاديث: أن الغسل لإزالة الروائح الكريهة ويفهم منه: أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة وكذلك أقول: لو قدمه بحيث لا يحصل هذا المقصود لم يعتد به والمعنى إذا كان معلوما كالنص قطعا أو ظنا مقاربا للقطع: فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ.
وقد كنا قررنا في مثل هذا قاعدة وهي انقسام الأحكام إلى أقسام منها: أن يكون أصل المعنى معقولا وتفصيله يحتمل التعبد فإذا وقع مثل هذا فهو محل نظر.
ومما يبطل مذهب الظاهري: أن الأحاديث التي علق فيها الأمر بالإتيان أو المجيء قد دلت على توجه الأمور إلى هذه الحالة والأحاديث التي تدل على تعليق الأمور باليوم لا يتناوله تعليقه بهذه الحالة فهو إذا تمسك بتلك أبطل دلالة هذه الأحاديث على تعليق الأمر بهذه الحالة وليس له ذلك ونحن إذا قلنا بتعليقه بهذه الحالة فقد عملنا بهذه الأحاديث من غير إبطال لما استدل به.
3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: «صليت يا فلان؟», قال: لا قال: «قم فاركع ركعتين».
وفي رواية: «فصل ركعتين».
اختلف الفقهاء فيمن دخل المسجد والإمام يخطب: هل يركع ركعتي التحية حينئذ أم لا؟ فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أصحاب الحديث إلى أنه يركع لهذا الحديث وغيره مما هو أصرح منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما».
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يركعهما لوجوب الاشتغال بالاستماع واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة: أنصت فقد لغوت» قالوا: فإذا منع من هذه الكلمة- مع كونها أمرا بمعروف ونهيا عن منكر في زمن يسير- فلأن يمنع من الركعتين- مع كونهما مسنونتين في زمن طويل- أولى ومن قال بهذا القول يحتاج إلى الاعتذار عن هذا الحديث الذي ذكره المصنف والحديث الذي ذكرناه.
وقد ذكروا فيه اعتذارات في بعضها ضعف ومن مشهورها: أن هذا مخصوص بهذا الرجل المعين وهل سليك الغطفاني- على ما ورد مصرحا به في رواية أخرى وإنما خص بذلك- على ما أشاروا إليه- لأنه كان فقيرا فأريد قيامه لتستشرفه العيون ويتصدق عليه وربما يتأيد هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يقوم للركعتين بعد جلوسه وقد قالوا: إن ركعتي التحية تفوت بالجلوس وقد عرف أن التخصيص على خلاف الأصل: ثم يبعد الحمل عليه مع صيغة العموم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب» فهذا تعميم يزيل توهم الخصوص بهذا الرجل وقد تأولوا هذا العموم أيضا بتأويل مستكره.
وأقوى من هذا العذر: ما ورد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حتى فرغ من الركعتين» فحينئذ يكون المانع من عدم الركوع منتفيا فثبت الركوع وعلى هذا أيضا ترد الصيغة التي فيها العموم.
4- عن جابر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس».
الخطبتان واجبتان عند الجمهور من الفقهاء فإن استدل بفعل الرسول لهما مع قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ففي ذلك نظر يتوقف على أن يكون إقامة الخطبتين داخلا تحت كيفية الصلاة فإنه إن لم يكن كذلك كان استدلاله بمجرد الفعل.
وفي الحديث: دليل على الجلوس بين الخطبتين ولا خلاف فيه وقد قيل بركنيته وهو منقول عن أصحاب الشافعي.

=========


وهذا اللفظ- الذي ذكره المصنف لم أقف عليه بهذه الصيغة في الصحيحين- فمن أراد تصحيحه فعليه إبرازه والله أعلم.
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب- فقد لغوت».
يقال: لغا يلغو ولغي يلغي واللغو واللغي قيل: هو رديء الكلام وما لا خير فيه وقد يطلق على الخيبة أيضا.
والحديث دليل على طلب الإنصات في الخطبة والشافعي يرى وجوبه في حق الأربعين وفيمن عداهم قولان هذه الطريقة المختارة عندنا.
واختلف الفقهاء أيضا في إنصات من لا يسمع الخطبة وقد يستدل بهذا الحديث على إنصاته لكونه عقله بكون الإمام يخطب وهذا عام بالنسبة إلى سماعه وعدم سماعه.
واستدل به المالكية- كما قدمنا- على عدم تحية المسجد من حيث إن الأمر بالإنصات أمر بمعروف وأصله الوجوب فإذا منع منه- مع قلة زمانه وقلة إشغاله- فلأن يمنع الركعتين- مع كونهما سنة وطول الزمان بهما- أولى وهذا قد تقدم والله أعلم.
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».
الكلام عليه من وجوه:
الأول: اختلف الفقهاء في أن الأفضل التبكير إلى الجمعة أو التهجير واختار الشافعي التبكير واختار مالك التهجير واستدل للتبكير بهذا الحديث وحمل الساعات فيه على الأجزاء الزمانية التي ينقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءا والذين اختاروا التهجير يحتاجون إلى الاعتذار عنه وذلك من وجوه.
أحدها: قد ينازع في أن الساعة حقيقة في هذه الأجزاء في وضع العرب واستعمال الشرع بناء على أنها تتعلق بحساب ومراجعة آلات تدل عليه لم تجر عادة العرب بذلك ولا أحال الشرع على اعتبار مثله حوالة لا شك فيها وإن ثبت ذلك بدليل تجوزوا في لفظ الساعة وحملوها على الأجزاء التي تقع فيها المراتب ولابد لهم من دليل مؤيد للتأويل على هذا التقدير وسنذكر منه شيئا.
الوجه الثاني: ما يؤخذ من قوله: «من اغتسل ثم راح» والرواح لا يكون إلا بعد الزوال فحافظوا على حقيقة راح وتجوزا في لفظ الساعة إن ثبت أنها حقيقة في الجزء من اثني عشر واعترض عليهم في هذا بأن لفظة راح يحتمل أن يراد بها مجرد السير في أي وقت كان كما أول مالك قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] على مجرد السير لا على الشد والسرعة هذا معنى قوله وليس هذا التأويل ببعيد في الاستعمال.
الوجه الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: «فالمهجر كالمهدي بدنة» والتهجير: إنما يكون في الهاجرة ومن خرج عند طلوع الشمس مثلا أو بعد طلوع الفجر لا يقال له مهجر.
واعترض على هذا بأن يكون المهجر من هجر المنزل وتركه في أي وقت كان وهذا بعيد.
الوجه الرابع: يقتضي الحديث: أنه بعد الساعة الخامسة يخرج الإمام وتطوي الملائكة الصحف لاستماع الذكر وخروج الإمام إنما يكون بعد السادسة وهذا الإشكال إنما ينشأ إذا جعلنا الساعة هي الزمانية أما إذا جعلنا ذلك عبارة عن ترتيب منازل السابقين فلا يلزم هذا الإشكال.
الوجه الخامس: يقتضي أن تتساوى مراتب الناس في كل ساعة فكل من أتى في الأولى كان كالمقرب بدنة وكل من أتى في الثانية كان كمن قرب بقرة مع أن الدليل يقتضي أن السابق لا يساويه اللاحق وقد جاء في الحديث: «ثم الذي يليه ثم الذي يليه» ويمكن أن يقال في هذا: إن التفاوت يرجع إلى الصفات.
واعلم أن بعض هذه الوجوه لا بأس به إلا أنه يرد على المذهب الآخر: أنا إذا خرجنا على الساعات الزمانية لم يبق لنا مرد ينقسم فيه الحال إلى خمس مراتب بل يقتضي أن يتفاوت السبق في الإتيان إلى الجمعة وذلك يتأتى منه مراتب كثيرة جدا فإن تبين بدليل أن يكون لنا مرد لا يكون فيه هذا التفاوت الشديد والكثرة في العدد فقد اندفع هذا الإشكال.
فإن قلت: نجعل الوقت من التهجير مقسما على خمسة أجزاء ويكون ذلك مرادا؟
قلت يشكل ذلك لوجهين:
أحدهما: أن الرجوع إلى ما تقرر من تقسيم الساعات إلى اثني عشر أولى إذا كان ولابد من الحوالة على أمر خفي على الجمهور فإن هذه القسمة لم تعرف لأصحاب هذا العلم ولا استعملت على ما استعمله الجمهور وإنما يندفع بها لو ثبت ذلك الإشكال الذي مضى من أن خروج الإمام ليس عقيب الخامسة ولا حضور الملائكة لاستماع الذكر.
الثاني: أن القائلين بأن التهجير أفضل لا يقولون بذلك على هذه القسمة فإن القائل قائلان قائل يقول: بترتيب منازل السابقين على غير تقسيم هذه الأجزاء الخمسة وقائل يقول: تنقسم الأجزاء ستة إلى الزوال.
فالقول بتقسيم هذا الوقت إلى خمسة إلى الزوال: يكون للكل وإن كان قد قال به قائل فلكتف بالوجه الأول.
الوجه الثاني من الكلام على الحديث: أنه يقتضي أن البضة تقرب وقد ورد في حديث آخر: «كالمهدي بدنة وكالمهدي بقرة»- إلى آخره فيدل أن هذا التقريب هو الهدي وينشأ من هذا: أن اسم الهدي هل ينطلق على مثل هذا؟ وأن من التزم هديا هل يكفيه مثل هذا أم لا؟ وقد قال به بعض أصحاب الشافعي وهذا أقرب إلى أن يؤخذ من لفظ ذلك الحديث الذي فيه لفظ الهدي من أن يأخذ من هذا الحديث ولكن لما كان ذلك تفسيرا لهذا ويبين المراد منه ذكرناه ههنا.
الوجه الثالث: لفظ البدنة في هذا الحديث ظاهرها أنها منطلقة على الإبل مخصوصة بها لأنها قوبلت بالبقر وبالكبش عند الإطلاق وقسم الشيء لا يكون قسيما ومقابلا له وقيل: إن اسم البدنة ينطلق على الإبل والبقر والغنم لكن الاستعمال في الإبل أغلب نقله بعض الفقهاء وينبني على هذا: ما إذا قال: لله علي أن أضحي ببدنة ولم يقيد بالإبل لفظا ولا نية وكانت الإبل موجودة فهل تتعين؟ فيه وجهان للشافعية أحدهما: التعين لأن لفظ البدنة مخصوصة بالإبل أو غالبة فيه فلا يعدل عنه والثاني: أنه يقوم مقامها بقرة أو سبع من الغنم حملا على ما علم من الشرع من إقامتها مقامها والأول: أقرب وإن لم توجد الإبل فقيل: يصبر إلى أن توجد وقيل: يقوم مقامها البقرة.
7- عن سلمة بن الأكوع- وكان من أصحاب الشجرة- رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به).
وفي لفظ: «كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع فنتبع الفيء».
وقت الجمعة عند جمهور العلماء: وقت الظهر فلا تجوز قبل الزوال وعن أحمد وإسحاق: جوزها قبله وربما يتمسك بهذا الحديث في ذلكن من حيث إنه يقع بعد الزوال الخطبتان والصلاة مع ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين» وذلك يقتضي زمانا يمتد فيه الظل فحيث كانوا ينصرفون منها وليس للحيطان فيء يستظل به فربما اقتضى ذلك: أن تكون واقعة قبل الزوال أو خطبتاها أو بعضهما واللفظ الثاني من هذا: يبين أنها بعد الزوال.
واعلم أن قوله: (وليس للحيطان ظل نستظل به) لا ينفي أصل الظل بل ينفي ظلا يستظلون به ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ولم يجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالجمعة والمنافقين دائما وإنما كان يقتضي ذلك ما توهم لو كان نفي أصل الظل على أن أهل الحساب يقولون: إن عرض المدينة خمس وعشرون درجة أو ما يقارب ذلك فإذا غاية الارتفاع: تكون تسعة وثمانين فلا تسامت الشمس الرؤوس فإذا لم تسامت الرؤوس لم يكن ظل القائم تحته حقيقة بل لابد له من ظل فامتنع أن يكون المراد: نفي أصل الظل والمراد: ظل يكفي أبدانهم للاستظلال ولا يلزم من ذلك وقوع الصلاة ولا شيء من خطبتيها قبل الزوال.
وقوله نجمع بفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة أي نقيم الجمعة واسم الفيء قيل هو مخصوص بالظل الذي بعد الزوال فإن أطلق على مطلق الظل فمجاز لأنه من فاء يفيء إذا رجع وذلك فيما بعد الزوال.
8- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1, 2] و{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الانسان: 1]).
فيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذا المحل وكره مالك للإمام قراءة السجدة في صلاة الفرض خشية التخليط على المأمومين وخص بعض أصحابه الكراهة بصلاة السر فعلى هذا لا يكون مخالفا لمقتضى هذا الحديث وفي المواظبة على ذلك دائما أمر آخر وهو أنه ربما أدى الجهال إلى اعتقاد أن ذلك فرض في هذه الصلاة ومن مذهب مالك: حسم مادة هذه الذريعة فالذي ينبغي أن يقال: أما القول بالكراهة مطلقا فيأباه الحديث وإذا انتهى الحال إلى أن تقع هذه المفسدة ينبغي أن تترك في بعض الأوقات دفعا لهذه المفسدة وليس في هذا الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائما اقتضاء قويا وعلى كل حال فهو مستحب فقد يترك المستحب لدفع المفسدة المتوقعة وهذا المقصود يحصل بالترك في بعض الأوقات لاسيما إذا كان بحضرة الجهال ومن يخاف منه وقوع هذا الاعتقاد الفاسد.


http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.باب العيدين:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة).
لا خلاف في أن صلاة العيدين من الشعائر المطلوبة شرعا وقد تواتر بها النقل الذي يقطع العذر ويغني عن أخبار الآحاد وإن كان هذا الحديث من آحاد ما يدل عليها وقد كان للجاهلية يومان معدان للعب فأبدل الله المسلمين منهما هذين اليومين اللذين يظهر فيهما تكبير الله وتحميده وتمجيده وتوحديه ظهورا شائعا يغيظ المشركين وقيل: إنما يقعان شكرا لله تعالى على ما أنعم الله به من أداء العبادات المتعلقة بهما فعيد الفطر: شكرا لله تعالى على إتمام صوم شهر رمضان وعيد الأضحى: شكرا على العبادات الواقعات في العشر وأعظمهما: إقامة وظيفة الحج.
وقد ثبت أيضا: أن الصلاة مقدمة على الخطبة في صلاة العيد وهذا الحديث يدل عليه وقد قيل: إن بني أمية غيروا ذلك وجميع ما له خطب من الصلوات فالصلوات مقدمة فيه إلا الجمعة وخطبة يوم عرفة.
وقد فرق بين صلاة العيد والجمعة بوجهين: أحدهما: أن صلاة الجمعة فرض عين ينتابها الناس من خارج المصر ويدخل وقتها بعد انتشارهم في أشغالهم وتصرفاتهم في أمور الدنيا فقدمت الخطبة عليهم حتى يتلاحق الناس ولا يفوتهم الفرض ولاسيما فرض لا يقضى على وجهه وهذا معدوم في صلاة العيد.
الثاني: أن صلاة الجمعة هي صلاة الظهر حقيقة وإما قصرت بشرائط منها الخطبتان والشرائط لا تتأخر وتتعذر مقارنة هذا الشرط للمشروط الذي هو الصلاة فلزم تقديمه وليس هذا المعنى في صلاة العيد إذ ليست مقصورة على شيء آخر بشرط حتى يلزم تقديم ذلك الشرط.
2- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له», فقال أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب: يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي فذبحت شاتي وتغذيت قبل أن آتي الصلاة فقال: «شاتك شاة لحم» قال: يا رسول الله فإن عندنا عناقا هي أحب إلي من شاتين أفتجزي عني؟ قال: «نعم ولن تجزي عن أحد بعدك».
البراء بن عازب بن الحرث بن عدي أبو عمارة ويقال: أبو عمر أنصاري أوسي نزل الكوفة ومات بها في زمن مصعب بن الزبير متفق على إخراج حديثه.
وأبو بردة بن نيار اسمه هاني بن نيار وقيل: هاني بن عمرو وقيل: الحرث بن عمر وقيل: مالك بن زهير ولم يختلفوا أنه من بلي وينسبونه: هانئ بن عمرو بن نيار كان عقبيا بدريا شهد العقبة الثانية مع السبعين في قول جماعة من أهل السير وقال الواقدي: أنه توفي في أول خلافة معاوية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق